العنوان ليس للإثارة، وليس لحصد المشاهدات، بل يعالج فكرة تتكرر منذ الأزل. تُثير فرضية انهيار إسرائيل وزوالها تساؤلات عميقة حول قابلية الكيانات السياسية للبقاء في مواجهة التحديات التاريخية والجغرافية. أُعلنت إسرائيل كـ(دولة) عام 1948، لكنها وُلدت في منطقة متوترة، على أراضٍ شهدت عبر التاريخ قيام وسقوط حضارات وإمبراطوريات. هذا الإرث التاريخي يجعل من زوال إسرائيل احتمالاً وارداً، خاصة إذا نظرنا إلى الدروس التي يقدمها التاريخ والجغرافيا عن الدول التي قامت في ظروف مشابهة.
في التاريخ القديم، كانت المنطقة التي تُعرف الآن بفلسطين موقعاً لإمبراطوريات عظيمة، من الكنعانيين والفينيقيين، إلى الأشوريين والبابليين، وحتى الفرس والرومان. كل هذه الكيانات، رغم قوتها وجبروتها، سقطت بفعل عوامل داخلية وخارجية. السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل إسرائيل، بموقعها الجغرافي الحساس وتركيبتها الاجتماعية والسياسية، محصنة ضد هذه الديناميكيات التاريخية؟
الجغرافيا تلعب دوراً جوهرياً في استقرار الدول أو انهيارها. تقع إسرائيل في منطقة تُعتبر من أكثر مناطق العالم تعقيداً، حيث تتقاطع المصالح الدينية والسياسية والاقتصادية. هذه البقعة الجغرافية، التي تُعد قلب العالم العربي، تجعل إسرائيل دائماً تحت تهديد مباشر. حدودها البرية قصيرة، وتحيط بها دول عربية عانت من صراعات طويلة مع هذا الكيان. تاريخياً، عاشت إسرائيل منذ قيامها حالة من الحرب أو الاستعداد الدائم لها، مما يضعف قدرتها على تحقيق استقرار داخلي دائم.
داخلياً، تعاني إسرائيل من انقسامات اجتماعية وسياسية عميقة. الصراع بين التيارات الدينية والعلمانية، الانقسامات العرقية بين اليهود الغربيين (الأشكناز) والشرقيين (السفارديم)، بالإضافة إلى وجود أقلية عربية كبيرة تعيش داخل حدودها، كلها تشكل عوامل ضعف قد تنفجر في أي لحظة. هذه التناقضات الداخلية شبيهة بما حدث في جنوب إفريقيا خلال فترة الفصل العنصري، حيث ساهمت الضغوط الاجتماعية والسياسية في إنهاء نظام التمييز العنصري وتفكيك النظام القائم.
عسكرياً، تعتمد إسرائيل بشكل كبير على الدعم الخارجي، خاصة من الولايات المتحدة. هذا الدعم، رغم قوته، ليس مضموناً إلى الأبد. التحولات في السياسة الدولية أو تراجع الهيمنة الأميركية على العالم قد يترك إسرائيل في مواجهة مصيرها بمفردها. التاريخ مليء بأمثلة لدول انهارت عندما فقدت حلفاءها الرئيسيين، مثل سقوط الإمبراطورية البيزنطية عندما تخلى عنها الغرب الأوروبي، أو انهيار جنوب فيتنام بعد انسحاب الدعم الأميركي.
إقرأ أيضاً: الإرهاب القادم… عدو بلا وجوه
اقتصادياً، رغم ما تحققه إسرائيل من تقدم تقني، إلا أن اقتصادها يواجه تحديات كبيرة، أبرزها تكلفة الأمن الباهظة. الإنفاق العسكري المرتفع، والتوترات السياسية التي تعيق الاستثمارات طويلة الأمد، بالإضافة إلى الأزمات السكانية والموارد المحدودة، كلها تجعل الاقتصاد الإسرائيلي عرضة للصدمات. هذه العوامل شبيهة بما حدث في الاتحاد السوفييتي، حيث أدى استنزاف الموارد في سباق التسلح إلى انهيار الدولة رغم قوتها الظاهرة.
استشرافياً، فإن استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، مع تصاعد المقاومة الشعبية والسياسية، يمثل تهديداً وجودياً. التجارب التاريخية تُظهر أنَّ الأنظمة التي تعتمد على القوة العسكرية لقمع الشعوب نادراً ما تصمد طويلاً. الاحتلال البريطاني للهند، والاستعمار الفرنسي للجزائر، ونظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، كلها أمثلة على أن إرادة الشعوب في التحرر لا تُهزم مهما طال الزمن.
إقرأ أيضاً: عبدالله الغذامي مدرسة نقدية قائمة بذاتها
إلى جانب ذلك، يُظهر تآكل صورة إسرائيل الدولية نتيجة لسياساتها التوسعية والتمييزية، تصاعد الضغوط الدبلوماسية والشعبية ضدها. مع تحول الرأي العام العالمي تدريجياً لصالح القضية الفلسطينية، قد تجد إسرائيل نفسها معزولة بشكل متزايد، خاصة إذا فقدت دعم القوى الكبرى.
الجانب الديمغرافي يشكل عاملاً حاسماً آخر في استشراف مستقبل إسرائيل. معدلات النمو السكاني للفلسطينيين، سواء في الأراضي المحتلة أو داخل حدود إسرائيل نفسها، تتفوق بشكل كبير على النمو السكاني لليهود الإسرائيليين. هذا الواقع الديموغرافي يُنبئ بتغير في موازين القوى، حيث قد يصبح الفلسطينيون أغلبية في المستقبل القريب، مما يهدد الطابع اليهودي للدولة.
ومع ذلك، فإنَّ زوال إسرائيل لا يعني بالضرورة انهياراً عسكرياً أو سقوطاً دراماتيكياً. السيناريو الأكثر ترجيحاً هو تحول تدريجي في طبيعة الدولة، ربما إلى دولة ثنائية القومية تضم الفلسطينيين والإسرائيليين في كيان واحد. هذا السيناريو، رغم صعوبته، قد يكون الحل الوحيد لضمان البقاء في ظل المتغيرات الديمغرافية والسياسية.
إقرأ أيضاً: الراشد والعمير… أسياد اللعبة
إسرائيل ليست استثناءً من القواعد التاريخية والجغرافية التي تحكم بقاء الدول. القوة العسكرية وحدها ليست ضماناً للبقاء، والشرعية الدولية لا تُبنى بالقمع والاحتلال. كما سقطت إمبراطوريات ودول عظمى في الماضي، فإن مستقبل إسرائيل قد يكون محكوماً بنفس المصير إذا لم تواجه الحقائق التي تحيط بها. الاستقرار الحقيقي لا يتحقق بالحصون والجدران، بل بالعدل والسلام. وختاماً، يبقى السؤال مفتوحاً: هل تستطيع إسرائيل تغيير مسارها، أم أن التاريخ سيكتب فصلاً جديداً في زوالها؟