لعل أحد أهم الإشكاليات السياسية في دراسة النظم السياسية وأنظمة الحكم هي جدلية العلاقة بين الحكم والحاكم، وبين الحاكم المستبد ونظام الحكم القائم، وهل الحاكم هو الحكم الديمقراطي والرشيد، ومن يصنع الآخر: الحكم أم الحاكم؟ أوليس الحاكم نتاج بيئة النظام السياسي، ويجسد منظومة القيم والثقافة التي تحكم السلوك السياسي للحاكم والمحكوم؟ نظام الحكم هو نتاج لمحددات بيئته السياسية بكل مكوناتها من ثقافة ودين وتاريخ وجغرافيا وسكان وتطور اقتصادي وبيئة اجتماعية، وأيضًا نتاج البيئة الخارجية.
وهنا الإشكالية الأخرى في الحكم: العلاقة بين البيئة الداخلية والبيئة الخارجية. ففي حالة ضعف البيئة الداخلية يكون تأثير البيئة الخارجية أقوى. هذا التأثير قد يكون إيجابيًا في تصحيح مسارات الحكم وحماية منظومة القيم والحقوق، أو سلبيًا قد يتمثل في دعم نظام الحكم القائم وتسلطه واستبداده.
بالعودة للإشكالية الأولى: هل يمكن أن يكون الحكم ديمقراطيًا والحاكم غير ديمقراطي؟ وهل الإنسان بطبيعته ديمقراطي؟ بشكل عام، الإنسان يميل للتفرد والتسلط حتى في النظم الأكثر ديمقراطية، لكن الفارق هنا أن نظام الحكم الديمقراطي، وهو عملية تطور سياسية طويلة وممتدة ولم تصل إليها الشعوب إلا بعد تضحيات ونضالات كبيرة بين أنظمة الحكم الإقطاعية والإمبراطورية، هو نتاج عمليات تنوير ومحاربة للحكم الاستبدادي التسلطي الذي حول المواطن إلى مجرد رعية.
هذا التطور هو الذي سيطر على التطور السياسي في أوروبا، لينتهي باستقرار نظام الحكم الديمقراطي الذي أرست مبادئه وقيمه وركائزه ما كتبه فلاسفة التنوير والعقد الاجتماعي، ولترجم نظام الحكم الديمقراطي حكم الشعب وللشعب وبواسطة الشعب من خلال بنية مؤسسية قوية تحل محل الشخصانية والفردانية ومنظومة قيم وحقوق وحريات مدنية.
تأسست الآليات عبر الانتخابات الدورية، تداول السلطة، المشاركة السياسية، وبنية قوية للمجتمع المدني، التي أسست لحالة من التوازن بين الدولة التي تمثل "الغول" في مفهوم هوبز وسلطة المجتمع المدني، لتمنع أي تفرد في السلطة.
إقرأ أيضاً: لماذا أخفق الفلسطينيون في حكم أنفسهم؟
الحاكم نتاج هذه العملية مثله مثل أي مواطن آخر، لكن هذا لا يمنع، كما رأينا في أعرق الديمقراطيات التي تمثلها الولايات المتحدة، محاولة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الخروج على مقومات النظام لكنه فشل لقوة النظام الديمقراطي.
هذا النموذج نجد منه أمثلة كثيرة، مثل حكم المستشارة أنجيلا ميركل في ألمانيا. وفي حالتنا العربية لدينا أكثر من نموذج. الفرضية الرئيسية هي أنه لا تتوفر في الحالة العربية مقومات الحكم الديمقراطية وإن وجدت فليست من القوة والديمومة والثبات التي تلزم الحاكم باحترامها.
هذا ما يفسر أن الانتخابات مجرد آلية للوصول للحكم لكنها لا تلزم الحاكم أن يكون ديمقراطيًا، وملتزمًا بمدخلات ومخرجات الحكم الديمقراطي. وهذا ما يفسر استمرار الحاكم في الحكم إلى الموت أو الانقلاب.
إقرأ أيضاً: ترامب الرئيس القوي القوي
النموذج الآخر يفسر لنا فشل كل حركات التحول العربية وفشل الحركات الإسلامية، كالإخوان المسلمين، في التعامل مع الانتخابات كآلية للوصول للحكم الأبدي في مفهومهم حكم بلا معارضة، وليس الهدف ترسيخ نظام الحكم الديمقراطي، مما أدى إلى محاولة التخلص منها كما رأينا في تونس ومصر.
النموذج الثالث يمكن القول إنه استفاد من هذه التحولات والأخطاء ببناء وتبني نظام الحكم الرشيد. هذا النظام نرى صورته في الإمارات. أساس أي حكم ديمقراطي هو رشادة الحكم بتوسيع المشاركة السياسية، زيادة درجة التمكين السياسي وخصوصًا للمرأة، توسيع نطاق الحقوق المدنية، ورفع درجة استجابة النظام السياسي للمطالب المتنامية التي تفرزها بيئة النظام السياسي.
المعيار في هذه الأنظمة الوراثية، التي تقوم شرعيتها ليس فقط على الحق في الحكم بل على قدرة الحاكم والحكم على اكتساب شرعية الإنجاز والقدرة والفعلية. في مثل هذه النظم تزداد درجة القبول والشرعية بالحكم القائم، والحاكم هنا يكون أكثر استجابة لبيئة الحكم القائمة، وهو ما يفسر نجاح هذه النظم.
إقرأ أيضاً: إسرائيل وغلق ملفات القضية الفلسطينية
هذه هي الصور المختلفة التي توضح لنا إشكاليات العلاقة بين نظام الحكم القائم والحاكم. خلاصتها أن نظام الحكم وبيئة الحكم، وهي في حالة تغير وصعود، هي التي تفرض وتحدد صورة الحاكم.
في النهاية، الحكم أساسه الشعب، فالحكم من الشعب وللشعب. نجاح الحكم والحاكم في قدرته على تحويل الحاكم إلى محكوم والمحكوم إلى حاكم، وبقدر العمل بهذه القاعدة يكون نجاح الحكم والحاكم.