دمشق وبغداد عاصمتا الخلافة الأموية والعباسية، وقبلتا أنظار العالم الإسلامي والحضارة الإنسانية، حيث كان يعيش الناس من كافة الأديان والقوميات جنبًا إلى جنب، في مظهر حضاري وإنساني يمثل الكوزموبوليتانية بمفهومها الحالي، أو ما يشبه مصطلح العولمة في القرن الحادي والعشرين.
وكان ذلك زمنًا مضى قبل عدة قرون.
تزداد التكهنات اليوم حول مستقبل العراق تصاعديًا مع تنامي الأمل وقرب اليقين بالخلاص من النفوذ الفارسي وعملائه.
ولكن وما نيل المطالب بالتمني؛
ليس هناك قواعد ثابتة في السياسة، فالمصالح تحكم دومًا.
لقد كشفت المسرحية الهزلية للهجمات الصاروخية المتبادلة بين إسرائيل وإيران مدى حقيقة الخصومة بينهما، والتي كانت مدعاة للسخرية والتندر حول العالم.
الحكم في العراق يتشارك فيه الأميركيون والإيرانيون منذ الغزو عام 2003، وهذه حقيقة ثابتة.
الإيرانيون لم يأتوا إلى سوريا على ظهور الدبابات الأميركية، فلكل بلد خصوصيته في متغيرات السياسة والمصالح.
الإيرانيون هم الأعداء في سوريا، لكنهم حلفاء شركاء في العراق مع الأميركيين. لذلك لا تتفق مصالح أميركا مع إنهاء نفوذهم في العراق، لكنها تتفق في طردهم من سوريا.
في سوريا، هناك شركاء ورعاة إقليميون ودوليون وفروا الغطاء اللازم للتغيير. في المقابل، على الأرض كانت هناك مجموعات قوى مسلحة ومتمردون ومعارضون للنظام، وكانوا منظمين وجاهزين لتنفيذ التغيير المطلوب. بمعنى آخر، التغيير على الأرض كان على عاتق قوى منظمة ومدربة ولها خبرة وهم متواجدون فعليًا داخل سوريا، وغالبيتهم من السوريين.
فالتغيير لم يأتِ من خارج الحدود كما حصل عند غزو العراق في 2003، ومن قبلها عاصفة الصحراء وتحرير الكويت عام 1991.
في العراق، لا توجد مثل هذه القوى المنظمة والمعارضة للنفوذ الإيراني من العراقيين داخل العراق للقيام بالتنفيذ من أجل التغيير وطرد النفوذ الإيراني. كما لا يوجد اهتمام مماثل أو مصلحة مباشرة في التغيير من قبل قوى إقليمية مثل تركيا وإسرائيل وقطر، تحت مظلة دولية كما كانت متوفرة في سوريا.
نتيجة لكل ذلك، ربما سيصاب غالبية العراقيين بخيبة أمل كبيرة في التغيير، ولكن تبقى الآمال معلقة على تسلم دونالد ترامب السلطة بداية 2025.
من خلال التسريبات الإعلامية والتكهنات حول التهديد الأميركي للحكومة العراقية بوجوب حل الحشد الشعبي والمليشيات الأخرى التابعة تنظيميًا للحرس الثوري الإيراني مع نزع سلاحها ودمجها في الجيش وقوى الأمن الوطني، فإنَّ هذا في حقيقته ليس حلًا، بل هو تحايل على الشعب. وكما يقول المثل: “وَعَرَّفَ الماءَ بعدَ الجهدِ بالماءِ”.
فهذا الأمر، إذا ما حدث فعلًا، فهو مجرد نوع ساذج من تبادل الأدوار وتغيير للوجوه شكلي وليس وجودي.
ربما قد يتطور الوضع بعد مجيء ترامب إلى استهداف قيادات ومقرات وخلايا، في تكرار مماثل لسيناريو تصفية المهندس وقاسم سليماني مطلع كانون الثاني (يناير) 2020. وهذا بطبيعة الحال مجرد تغيير للوجوه ليس إلا، فالنفوذ الإيراني هو حالة وجودية وليست حالة مؤقتة أو طارئة.
وحتى مثل هذه التصفيات إن حصلت، فهي لن تؤثر على حقيقة واقع الهيمنة الإيرانية في العراق.
كل هذا السيناريو الذي نتصوره في محصلته النهائية ما هو سوى عملية كسب المزيد من الأوراق للتفاوض لكلا الطرفين، إيران وأميركا.
لقد أعطى الرئيس الأسبق باراك أوباما، من خلال الاتفاق النووي 5+1 عام 2015، الحق لإيران للدخول إلى هذا النادي الذري الدولي ولو بعد حين. ولا توجد منذ ذلك التاريخ أي مؤشرات ملموسة وحقيقية للتنصل منه أو طرد إيران من النادي سوى رغبة ترامب الشخصية دفعاً بهذا الاتجاه. ومع ذلك، فهو لم يستطع عمل شيء سوى فرض عقوبات اقتصادية على نظام الملالي.
إقرأ أيضاً: ما تبقى من الهلال الشيعي.. إلى بغداد خذوني معكم!
إذن، فالمشروع الإيراني بمشاركة أميركا في العراق هو مشروع لا يزال قائمًا وقويًا رغم كل المظاهر المسرحية والهزلية التي نراها من خلال سيناريو مكتوب ومتفق عليه.
هو إعادة ترتيب وتنظيم لتقاسم المصالح والنفوذ داخل العراق. وسلاح إيران النووي في إطراد تقدمه المزعوم لا يخيف إسرائيل، بل ربما يكون مكملًا موازنًا لهيمنتها وتوسعها في المنطقة. والتصريح الخطير للمهذار ترامب بأن مساحة إسرائيل صغيرة ويجب أن تتوسع جغرافيًا في حقيقته هو تصريح يتجاوز استمالة إسرائيل أو محاباتها لأغراض سياسية. ومؤشرات ذلك بدأت في الظهور الفعلي على الأرض في غزة وجنوب لبنان وسوريا، والقادم مجهول.
في نهاية اليوم، لا أحد يمكن أن يدعي علمًا بما سيحدث مستقبلاً أو غدًا من أحداث أو تغييرات على حجم النفوذ الإيراني داخل العراق.
ولكن الشيء المؤكد أنَّ المتغيرات الإقليمية والدولية قد غيرت اتجاهات رياح مصالحها نحو واقع جديد بدأ يرسم واقعًا جيوسياسيًا جديدًا ومغايرًا نتيجة لتقاطع الكثير من المصالح، والتي كانت ولغاية الأمس القريب متنافرة ومتضاربة.