كلما أمعن العدو فى غزة إهلاكًا وتدميرًا أمعنت طوائف منا ممن يُدعون بأسماء عربية، ويضعون أعلامًا عربية، ويتكلمون بكلام أهل السنة فى الطعن والعيب والذم ليس فى قاتل أخيهم، بل فى أخيهم ومن أعان أخيهم! فتراهم يتركون المعتدى ويفرِّغون أنفسهم "للهمز واللمز" فى أهل الجوار من (الفُرس والشيعة)، فحينًا يطعنون فى عرقهم الفارسى، وحينًا يذكرونهم بما ابتدعوا فى الدين، وحينًا يتباكون على فعلهم بأهل السنة فى العراق وسوريا، وحينًا ينقمون ممن استعان بهم وأخذ رِفدهم من العرب السنة فى فلسطين! ولا يزالون يضربون فى ظهور أهل الجبهات والثغور بهذا وأشباهه! وليس هنا العجب، بل العجب أن حميتهم هذه ما ثارت إلا لفعل نالوا به عدوًّا أجنبيًّا على غير دينهم يحتل أرضهم ومسجدهم! ولو آمنوا وعقلوا لكان واجب الوقت خلاف ذلك!
وأنا لا أتوجه بهذه المقالة إلى أحد من هؤلاء "السَّرِّيحة"، فهم لا يملكون من أمر عقولهم شيئًا، ورُسن أحدهم فى يد غيره، بل أتوجه بمقالتى هذه إلى من يهمه الأمر، ويظن أنه إذا أرسل هؤلاء "السَّرِّيحة" على الصفحات والشاشات فقد كُفِىَ أمر (الفُرس، أو إيران، أو الشيعة، أو الممانعة، أو المماتعة) أو لتنعتهم بما شئت! فأقول: إن هؤلاء الفُرس أو الشيعة لم يتم لهم العُلُوُّ وركوب أربع عواصم عربية ببعض "السَّرِّيحة"، ولا ببعض "الهمزة اللمزة"، ولا "بغيرة الضرائر"، ولا "بكيد النسا"، ولا "بشتام الصبيان"، ولا "بتحاسد الباعة" الذى نراه على الشاشات والصفحات، لكن تم لهم ذلك بأعمال اجتهدوا فيها وقصرنا نحن عنها، فأنجحوا وأخفقنا، وإليكم بيان هذه الأمور لعلنا أن نتدارك ما فرط منا:
الأمر الأول: حضور الهَمُّ والهمة: مُذ قامت الثورة الإيرانية وللقائمين عليها هَمٌّ عظيم هو تصدير الثورة، وتبوأ منزلة الرياسة فى المسلمين كافة، فإن لم يستطيعوا ذلك فهَمُّهم أن تكون لهم الرياسة فى العالم الشيعى وقد استطاعوها، تشهد بذلك أربع عواصم عربية قد وضعوا أيديهم عليها فى غفلة منا وتهاون شديدين، فالقوم أقدموا ولم يبالوا بشرعة دولية ولا قوانين أممية، بل عملوا بقول شوقى بك: (ولكن تُؤخَذ الدنيا غِلابا)! وهَمٌّ آخر كان لثورتهم أنهم تكفلوا بنصرة المستضعفين وأهل المظلوميات، وناوؤا قوى الاستكبار العالمى، وقد قطعوا فى ذلك أمدًا بعيدًا لا يُنكَر ولا يُجحَد، فهم قد مَوَّلُوا وسلَّحوا وأمدُّوا دولًا وجماعات تناوئ الحلف الغربى فى لبنان وفلسطين وأفغانستان وروسيا، واحتملوا فى سبيله الحصارات والغرامات حتى صارت الدولة الإيرانية ركنًا لا يمكن تغافله فى غير ساحة، فشاهد ١٣٦ طاغية الظهور فى السماء الأوروبية فى الحرب الروسية الأوكرانية، وهى فى الحق الفلسطينى تجهر به وترفع لواءه، وإيران تمسك فى يدها عقدة المضايق العالمية، وهى فى غرب أفريقيا قائمة حاضرة كذلك، ... إلخ.
فتلكم هى الدولة الإيرانية شئتُ أنا أو أبيتُ، وشئتَ أنتَ أو أبيتَ، فأما نحن العرب والسنة فما هَمُّنا الذى قمنا لأجله؟! وما سعيُنا لنكون ركنًا لا يُغفَل فى محافل الكبار؟! لعل أحدًا يقول: نحن نأكل الأغلى، ونبنى الأعلى، ونركب الأفخم، ونركن إلى السلم والدعة، فأقول: صدقت، هذا هَمٌّ ينزلك فى الترتيب الأول من كبار العملاء عند الشركات والمستثمرين، لكن عند تفاوض الكبار فى الأمور الكبار سيكون لخصمك الكعب الأعلى، والصوت الأجهر؛ لأنه كان أعلى منك هَمًّا وأبعد همة.
الأمر الثانى: شرف الهَمِّ والهمة: خصومنا أو جيراننا أو أعداؤنا من الفُرس أو الإيرانيين أو الشيعة أو انعتهم كيف شئت قد أحسنوا اختيار الهموم الشريفة ذات الخطر عند المسلمين وعند المستضعفين من غيرهم، والتى تكسب متقلدها من شرفها وعظمها كائنًا من كان، فالقوم قد قاموا فسدُّوا الخلل الذى تركناه نحن العرب والسنة فى القضية الفلسطينية آخر عشرين سنة، فأمدُّوا وأعانوا وموَّلوا ودربوا المقاومين والمجاهدين فى فلسطين، ونوهوا باسم فلسطين وجهروا بحقها فى كل محفل، ودحضوا حجج عدوها، فعظموا بذلك مكانةً، ونالوا بذلك سُمعة واسعة فى المسلمين؛ لأنهم تعلقوا بالقضية الشريفة التى كنا نحن أحق بها وأهلها، ولو تقلد هذه القضية كولومبى أو أسترالى أو كورى لاكتسب من شرفها منزلة عظيمة، فإننا لا نزال إلى اليوم نذكر بالخير والجميل الناشطة الأمريكية راشيل كورى، والنائب البريطانى جورج جالوى، وإنك لعلى شىء من الحق إذا قلت إن الإيرانيين ما فعلوا ذلك إلا سُمعة ورياء، واكتسابًا للثناء الجميل، وزيادة نفوذ فى أرض العرب السنة، ولك أن تقول أكثر من ذلك، لكن الحق يرد عليك أن كل بلد منا قد نزعت يدها شيئًا فشيئًا من القضية الفلسطينية، وألقت عن كتفيها هذا الرداء الشريف، فتلقته إيران، وأمدت يد المدد إلى أهل فلسطين بعد تولى الجميع عنهم، وتخلى عدوهم بهم وبأرضنا وبمسجدنا، فهل تراهم يرُدُّون يدًا لأنها غير عربية ولا سنية، ويسلمون رقابهم لليهودى الصهيونى؟! فهذا موطن صغرنا نحن فيه وكبروا فيه هم! فليس لك أن تلومهم أنهم بادروا فأخذوا لواءً أسقطناه، وليس لك أن تلوم مَن قَبِل عونهم ورفدهم بينما أنت تلهو عن قضيتك فى مهرجانات الصيف وحفلات الشتاء! وإلا فهذه أرضك ومسجدك فتولَّها وقم بحقها واظفر بشرفها، وفى مثل هذا قال الأول:
أَقِلُّوا عليهم من اللوم لا أَبَ لأبيكم *** أو سُدُّوا المكان الذى سَدُّوا
الأمر الثالث: ملء الساحات: من المعلوم من الطبيعة بالضرورة أنه إذا انحسرت مادة عن حيِّز تمددت أخرى فى ذات الحيِّز، وهذه سُنة تجرى كذلك على جماعات الوحوش والسباع، والبشر فرادى، وجماعات، وأمم، فكلما انتشرتَ أنتَ فى ساحة انحسرت ساحة عدوك، وإن رجعت عنها انتشر عدوك، فكم من ساحة كان لنا فيها حضور وثقل، فلما أخليناها ورَكَنَّا إلى الدعة واللهو وظننا أن هذا هو الطريقة المُثلى للعيش تقدم غيرنا فنزل ساحتنا وضمها إليه! فالساحة التى تخليها لن يحفظها لك غيرك، والفارسى أدهى من أن يرى موطئ قدم فيتجافى عنه، وهو أذكى من أن يجد ذراعًا طولى فيقطعها، بل سيزيدها طُولًا وطَوْلًا، وفى فلسطين تُرِكت المقاومة لغير العرب والسنة ثم تنعى على غيرك أنه حَلَّ بساحتك!
الأمر الرابع: صناعة الأذرع: ترى الفرس يصطنعون لدولتهم جماعات وأحزابًا من الشيعة والسنة ومن غيرهم فيتألفونهم، ويقربونهم، ويمدونهم بالأمداد حتى تصير لهم كأذرع الأخطبوط ذات الطُّول والطَّوْل، فإذا ما احتاجوهم كانوا لدولتهم عونًا ونصيرًا، فالفارسى أحيا أذرعًا واصطنع أخرى، فانظر إليه ينقل إلى أرضك وساحتك كتائب الزينبيون من باكستان ليقاتلوا فى سوريا، ويأتى بعسكر من حزب الله اللبنانى إلى أنصار الله باليمن يعلمونهم، وانظر إليه تأتمر بأمره جماعات وأحزاب فى أفغانستان والعراق وسوريا وآخرون غيرهم لا أعلمهم يحركهم كيف شاء، ويخاتلك بهم من أعلى ومن أسفل، وعن يمين وعن شمال، لكن نحن قطعنا عن أجسادنا كل ما كان لنا من أذرع وجماعات وأحزاب كانت يومًا ما ذات طُول وطَوْل، لو كنا ادخرناها ليوم كهذا لكانت تصول لنا وتجول، وتنطق عنا فتُسمع، وتُرسَل فتؤلف القلوب وتوطئ الأرض والشعوب، وتكون ردءًا وظهيرًا يُشاغَل به العدو، لكن أحرقنا كل بيادقنا، وكش ملك!