هكذا كنت تودعني في كل مرة نلتقي فيها أو نزور بعضنا البعض. نعم، اليوم أودعك مرة أخرى، لكن هذه المرة الوداع أكثر إيلامًا وحزنًا شديدًا. ومع ذلك، فإن صداقتنا الطويلة، التي امتدت لأكثر من ثلاثة عقود، تملؤني بعدد لا حصر له من الذكريات، بلحظات حية وتجارب مشتركة. جميعها حاضرة بقوة في حياتي وستساعدني على تذكرك بنفس المودة والإعجاب اللذين كنت أكنهما لك دائمًا.
تعرفنا على بعضنا قبل أكثر من ثلاثين عامًا. في ذلك الوقت، كنتَ وزيرًا للثقافة في المملكة المغربية، بينما كنتُ قد عدت لتوي من مهمتي الدبلوماسية في بلادك، وكنت مسؤولًا عن منطقة شمال إفريقيا في وزارة الخارجية الإسبانية. أجرينا سلسلة من الحوارات الثرية، وسرعان ما أدركنا أننا سننسجم معًا، وأن علاقتنا القائمة على الثقة ستعود بالنفع على مستقبل العلاقات بين بلدينا.
لقد تعززت صداقتنا بشكل كبير عندما تم تعييني وزيرًا للخارجية في إسبانيا، بينما كنتَ قد أمضيت سنوات طويلة على رأس الدبلوماسية المغربية. أدركنا على الفور أن مسؤوليتنا، كقادة للسياسة الخارجية في بلدينا، هي إعادة بناء العلاقات الثنائية بروح من الجدية والصداقة والمسؤولية. وأعتقد أننا نجحنا في ذلك. كان من بين الأولويات الأساسية للحكومة الإسبانية الجديدة في عام 2004 إعادة بناء علاقاتها مع جارتها الجنوبية. فقد عانت العلاقات الثنائية بشدة في السنوات الأخيرة، ومرت بأزمات خطيرة. والأهم من ذلك، أن الثقة بين الإدارتين كانت قد تراجعت.
أتذكر عندما دعَوتني لحضور مهرجانك الصيفي في مدينتك الأصلية، التي كنت أيضًا عُمدتها لأكثر من ثلاثين عامًا: أصيلة. لا أنسى لحظة وصولي إلى قاعة المؤتمر، حيث استقبلنا الناس بالتصفيق، وأظهروا رضاهم عن حضور الوفد الوزاري الإسباني الجديد. لقد تضاعفت كرم الضيافة المغربية التقليدية في تلك المناسبة. ومنذ مشاركتي الأولى في 2004، لم أتغيب عن المنتدى الذي كنت تنظمه منذ أكثر من أربعين عامًا، إلا في عام 2022.
كانت أصيلة مسقط رأسك، حيث درست مرحلتي الابتدائية والثانوية في “مدرسة إل بيلار”، التي غرست فيك العادات والتقاليد الإسبانية. ولم يفارقك ذلك الإرث أبدًا، بل ترسخ في عمق هويتك المغربية.
يمكننا اليوم أن نقول بثقة إنه إذا كان هناك وزير في تاريخ المغرب أتقن الإسبانية وأحب الثقافة الإسبانية، فأنت بلا شك ذلك الشخص. فقد زخرت حياتك بالكثير من اللحظات التي ارتبطت فيها بإسبانيا، حتى أن فرصة مواصلة دراستك في القاهرة تحققت بفضل سفير إسبانيا هناك، الذي ساعدك في الحصول على الوثائق الرسمية اللازمة للسفر والإقامة في مصر.
هناك العديد من المواقف واللحظات والتجارب التي جمعتنا، سواء على المستوى الشخصي أو المهني. واليوم، ليس الوقت المناسب لاسترجاعها جميعًا، ولكن لا بد من الإشادة بمساهمتك القيمة في تعزيز العلاقات المغربية الإسبانية.
لقد حظيت بشرف خدمة العاهلين الأخيرين لبلادك. وصلت إلى هذا المنصب بقرارهما، ولكن أيضًا بفضل عملك السابق، وجرأتك في اقتراح الحلول المبتكرة، وولائك الدائم لوطنك ولمن كانوا فوقك في المسؤولية. لقد حدّثت الدبلوماسية المغربية، وأصبحت معروفًا ومقدرًا في إفريقيا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية وأوروبا. كان لمرور محمد بن عيسى على وزارة الخارجية المغربية أثر واضح قبلها وبعدها.
واجهنا معًا أزمات صغيرة، لكن العلاقات الثنائية خرجت دائمًا أقوى منها. كانت مهمتنا الأساسية هي بناء الثقة المتبادلة، لتكون شبكة أمان أمام أي تحدٍّ قد ينشأ بين بلدينا الجارين. لا أنسى كيف تعاملنا مع أزمة الهجرة في 2007-2008، حيث استطعنا، بفضل مائدة إفطار في منزلك بالرباط، أن نحول الأزمة إلى فرصة. انتهى المؤتمر الإفريقي في الرباط بنجاح، ولا تزال وثيقته الختامية تحمل دلالتها اليوم. يجب على المسؤولين السياسيين الحاليين قراءتها أكثر، والأهم من ذلك، تطبيقها بالكامل. وأنا واثق من أن النتائج ستكون أفضل.
لقد فتحت لي أبواب إفريقيا بفضل منتدى أصيلة وخبرتك الفريدة. تعرفتُ من خلالك على عدد كبير من الشخصيات الإفريقية المؤثرة. وفي بيتك، وجدتُ مفتاح حل أزمة اختطاف طويلة ومأساوية لعدة عمال إغاثة إسبان في موريتانيا. كما تعلمت الحكمة وفنون القيادة من زملائنا في الشرق الأوسط وإفريقيا.
كان منتدى أصيلة بالنسبة لي موعدًا لا يمكن تفويته. وكنت دائمًا أقول علنًا إنه أهم وأكثر إلهامًا من أي منتدى دولي آخر، بما في ذلك منتدى دافوس.
كان شهر أكتوبر الماضي آخر مرة رأيتك فيها، في منتداك، في مدينتك. جلسنا في منزلك كما اعتدنا، نخوض في حوار عميق، محترم، غني، امتد حتى وقت متأخر من الليل، بينما كنا نتذوق – كما هو معتاد – أطباق المطبخ المغربي الشهية، برفقة زوجتك العزيزة ليلى ومجموعة من المثقفين العرب، الذين قد لا يكونون معروفين في الغرب، لكنهم لامعون في تحليلاتهم المتواضعة حول أوضاع العالم.
وكما في كل مرة، قلت لي: “وداعًا، صديقي”. لم أكن أعلم أن هذه ستكون المرة الأخيرة التي نلتقي فيها في أصيلة.
ارقد بسلام. سنواصل نحن البحث عن السلام، مستلهمين من إرثك وروحك.
صديقك وأخوك،
ميغيل أنخيل موراتينوس
*وزير خارجية إسبانيا الأسبق