في الأشخاص، هي مشاهد أو مواقف أو أحداث صادمة أو حزينة تخزنها النفوس في مناطق مظلمة ومغلقة ومغلفة بإحكام شديد. تحدث عنها فرويد وأفاض في شرحها بمجلدات ومباحث كثيرة. لا يوجد إنسان خالٍ من هذه المنطقة، خصوصاً تلك التي جرت أحداثها في جدة الحياة، حيث لا تتوافر تفاسير كافية ولا علاجات شافية في حينها، فتتحوصل وتخزن وتظل عصية على التحلل أو الضمور بفعل الزمن. ويمتد تأثيرها اللاإرادي مهيمناً على كل قرارات الشخص وسلوكه طوال مسيرة حياته وكل مناحيها.
على سبيل المثال، لا زلت أعاني، شخصياً، من منطقة مؤلمة في نفسي جرت أحداثها منذ سبعين عاماً عندما كنت في السادسة. ومن شدة إيلامها، لم تغادرني أي من تفاصيلها حتى اليوم، رغم محاولات بائسة ويائسة لتجاهلها وتناسيها، لكنها فشلت. رغم انقضاء الدعوى، غادر جميع شخوص المشهد مسرح الحياة عداي. أتذكر أيضاً أنه في يوم وفاة أبي، وفي ارتباكات لحظات احتضاره، حضرتني حادثة سقوط وتهشم زجاجة ماء كولونيا تُستخدم بعد الحلاقة أو ما شابه، وعبقت رائحتها المكان. اختلطت الرائحة النفاذة بصوت عويل النساء مع مشهد جسد أبي المسجى على سريره. أظنني أغشي عليّ حينها من هول الصدمة، حيث كان أبي لم يتخط الأربعين ولم أره مريضاً قط. ومنذ ستين عاماً وحتى اليوم، إذا تصادف أن شممت هذه الرائحة في أي مكان، ينفجر المشهد كله في لحظة وأوشك على الإغماء رغماً عني.
تحوي هذه المناطق المؤلمة للنفس خليطاً من الجروح والرضوض: عنف، خيانة، تحرش، فواجع، فضائح، فقد، جرائم، وكل موبقات النفس البشرية وهي في دركها الأسفل.
إقرأ أيضاً: السودان... مأساة "الزول" الحائر
من هنا، يتضح أنَّ هذه المناطق خارج السيطرة، ولا يمتلك الإنسان رفاهية حذفها من ذاكرته أو التحكم فيها. ووجودها المتحوصل في النفس البشرية ينعكس على الجسد أيضاً، مسبباً أمراضاً وأعراضاً مثل التبول اللاإرادي، العنة، الاضطرابات الجنسية، وأمراض أخرى تبدو في ظاهرها عضوية، لكنها في الحقيقة أعراض لأورام نفسية متحوصلَة منذ زمن. وما المخدرات والكحوليات والهوس الجنسي إلا محاولات يائسة للابتعاد عن هذه المناطق المحرمة أو تناسيها ولو مؤقتاً، ما يؤدي إلى انزلاق الإنسان في مستنقع الإدمان.
هذه المناطق أيضاً موجودة عند الجميع: أسر، شعوب، حضارات، ومعتقدات. هي مناطق محمية ومسيجة بعناية. أي اقتراب منها يشعل صفارات الإنذار، وتنبيه بالابتعاد. لا توجد أسرة يخلو تاريخها من نقطة سوداء مؤلمة، مخبأة ومسكتوت عنها، والجميع يتجنب ذكرها أو تذكرها. كذلك، أمم وشعوب كثيرة لديها مناطق مؤلمة محرمة، ممنوعة من الاقتراب، وأحياناً تصل إلى حد التجريم قانوناً.
إقرأ أيضاً: حرب الملائكة
على سبيل المثال، تعد المحرقة وصمة عار للأمة الألمانية، ويتجنب الأتراك، بوصفهم ورثة الدولة العثمانية، الحديث عن مذابح الأرمن. أما اليهود، فيتحاشون ذكر أسفار العنف في التوراة. الإنجليز، الإيطاليون، البلجيك، والفرنسيون بدورهم يتجنبون الحديث عن مذابح المستعمرات التي ارتكبوها في إفريقيا.
إلى أن يتخلص الإنسان من هذه المناطق المؤلمة في حياته، سيظل يعاني أشد المعاناة.