مطالع العام الفائت، وخلال جولة في إيطاليا لتقديم روايتي الأخيرة، أتيح لي القيام بزيارة سريعة إلى «القصر الملكي» لمشاهدة معرض مخصص لجورج غروش تحت عنوان «سنوات برلين». وكان سبق لي في مناسبات أخرى أن شاهدت معارض أخرى له في ألمانيا وفرنسا، وصرت على يقين بأن أعمال هذا الفنان، وحياته، تثيران اهتمامي بشكل جارف، ليس فحسب لأسباب تتعلق بموهبته التي لا جدال فيها، فهو يجسّد جانباً مركزياً في الإبداع الفني، أي علاقة الفن بالتاريخ والحياة والحقيقة والصورة التي ينقلها إلى العالم الموضوعي. ومع مرور الوقت أدركت أن إعجابي الشديد بما رسم وكتب وعاش طوال عقوده الستة يعود إلى مجموعة من التناقضات والتقاربات بيننا كانت تتوضّح لي بقدر تعمّقي في معرفة تفاصيل سيرته ونتاجه.
شهد غروش النور عام 1893 في قرية صغيرة من أعمال مقاطعة بوميرانيا الألمانية. ولدى وصوله إلى زوريخ في عام 1918، وجد في المذهب الدادائي ضالته الفلسفية والوسائل المناسبة التي أتاحت له إطلاق العنان لأفكاره الفوضوية، وغضبه الشديد ضد النظام السياسي لجمهورية فايمر الناشئة ومؤسساتها، ولأحلامه الثورية الهدّامة التي دفعته للانتماء إلى الحزب الشيوعي الذي غادره عام 1925 إلى جانب عدد من الدادائيين الألمان. وانصرف بعد ذلك إلى التعاون مع كل الدوريات والأنشطة التي تدور في فلك ذلك المذهب، وبدأ ينشر رسومه الأولى ويشرف على إصدار المنشورات الفنية الطليعية وتنظيم المعارض وإثارة الفضائح التي جرّت عليه عقوبات بسبب تهجمه على المؤسسة العسكرية، وانخرط في كل الحركات الثورية خلال الفترة التي مهّدت للكارثة الأوروبية الكبرى، وكانت أيضاً أرضاً خصبة للإبداع الفني.
تلك كانت الحقبة الذهبية بالنسبة لغروش الذي جسّد، أفضل من الجميع، هيمنةَ الفنون التشكيلية والتعبيرية في جمهورية فايمر. ونال سمعة وطيدة، رغم أن أعماله تعرضت أيضاً للنقد القاسي من لدن المحافظين، بسبب فحشه وانتقاده للتيار العسكري، حتى أن بعض رفاقه ابتعدوا عنه أحياناً لإفراطه في النقد والتطرف. لكن الواقع هو أن أسلوب غروش الفردي والاعتباطي والعنيف لم يكن صالحاً لخدمة أهداف حزب سياسي مهما بلغت درجة ثورية هذا الحزب وسعيه إلى تغيير المجتمع القائم. أكثر من اهتمامه بتمجيد البروليتاريا والمجتمع غير الطبقي، اقتصر غروش على السخرية من العسكر والبورجوازيين والحكام ورجال الدين، واستفاض في سرده حول المجرمين والفاسقين.
في عام 1933 انقلبت حياته وأعماله رأساً على عقب بفضل أكاديمية عصبة الفنون الطلابية في نيويورك التي أتاحت له الانتقال إلى الولايات المتحدة قبل أسبوعين من صعود هتلر إلى الحكم، وانسدال ظلام الرايخ الثالث على ألمانيا وأوروبا. قلة هم الفنانون الذين كانوا في مرمى أهداف النازيين مثله، ويقدّر الباحثون أن ما يزيد عن 285 من أعماله الفنية تمّ تدميرها أو إخفاؤها خلال الحقبة النازية، كما سحبت منه الجنسية الألمانية وصودرت جميع ممتلكات زوجته إذ لم يكن هو يملك شيئاً.
عاش غروش في الولايات المتحدة بقية حياته تقريباً، لكنه عاد إلى برلين حيث وافته المنية بعد وصوله بأشهر عام 1959. وباستثناء عامين فقط، حيث تمكن من التفرّغ للرسم بفضل منحة من متحف كوغينهايم، كان يدرّس في عدد من الجامعات والمدارس الخاصة. وباءت بالفشل كل جهوده لبلوغ الشهرة في الولايات المتحدة كرسّام في كبرى المجلات مثل «نيويوركر» و«إينكواير» و«فورتشون» وغيرها، ولم تستقطب أعماله اهتماماً يذكر في الأوساط الأميركية.
ورغم المرارة التي ترشح من رسائله خلال الحقبة النازية والحرب التي تلتها، كانت حياته في الولايات المتحدة تسير على وتيرة بورجوازية كرب عائلة يقوم بواجباته على أكمل وجه، لكن من غير أن يبلغ الشهرة التي كان يحلم بها والمجد الذي يستحقه. بدأ بمعاقرة الخمر، ثم وقع في الإدمان، وكان يمضي الليالي في منزله على ساحل لونغ آيلاند برفقة أصدقائه ورفاقه من سنوات برلين والحزب الشيوعي الذي كان بعضهم، مثل برتولت بريخت، ما زالوا أوفياء له، بينما كان غروش يكيل النقد والشتائم لهتلر كما ستالين والفاشية.
في الولايات المتحدة تحوّل غروش إلى كائن آخر يختلف كثيراً عن ذلك الذي كان في ألمانيا، كما أن أعماله أصبحت دون المستوى الإبداعي الذي تميز به نتاجه الأول. في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي كانت أعماله على درجة عالية جداً من الإتقان والإبداع، لكن رسومه خلال الفترة الأميركية تفتقر إلى الحقد والغضب والعبثية والاعتباطية الجامحة التي ميّزت أعماله في مرحلة الشباب الأول. في الولايات المتحدة صارت أعمال غروش تمجيداً للحكمة والفطنة والمنطق والرأفة، بعد أن كانت أعماله الأولى تدعو إلى العنف والتمرد على البؤس والانجراف وراء الملذات والفسق. وهذا ما دفعه إلى التبرؤ من نتاج المرحلة الأولى عندما قال: «لا تعجبني أعمالي في المرحلة الوسخة. كل ذلك عفا عليه الزمن». وكان يعدُّ أن إنتاجه الفني في الولايات المتحدة بلغ مرحلة عالية من النضوج والامتياز، كأنه يعترف بأن ذلك التحول كان بمثابة الإعراب عن قبوله المجتمع الذي كان يعيش فيه، بعد أن كان في السابق متمرداً على الواقع الذي نشأ فيه.
لم يكن غروش فناناً اجتماعياً. كان ملعوناً. وعندما تكون الأعمال الفنية الأصيلة، في مرحلة ما، محكومة بأن تبقى هكذا بسبب من التوافق السطحي والمتحوّل السائد في الحضارة الحديثة على الصعيد الفني، تبدو الأعمال المبتكرة كأنها غريبة وهامشية. ولا شك في أن أعمال غروش نشأت من رحم الصدق والواقعية في إطار ممارسة واسعة للحرية من غير قيد أو شرط.
الأعمال الفنية الكبرى مغلّفة دائماً بالغموض والأسرار، ولا ينبغي مقاربتها بالمقاييس الآيديولوجية أو الأخلاقية أو السياسية، علماً بأن العكس هو بمثابة إخفاء أحد الوجوه الأساسية فيها: أي أنها لم تولد في الفراغ، وأنها تخضع لعوامل الحقبة التاريخية التي تظهر فيها. بعض هذه الأعمال يسهل فهمها بسبب غموضها أو تعدد أوجه تفسيرها. والبعض الآخر، مثل أعمال غروش، تكون عصيّة على التفسير وتثير الانزعاج لدى النقّاد الذين يجدون صعوبة في التسليم بأن العنف والقسوة والإجرام والفسق هي أيضاً من العناصر الأساسية المكوّنة للواقع الذي نعيش فيه.