: آخر تحديث

بناء الجسورِ ومواجهة التطرف والطائفية!

4
3
3

مؤتمر «بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية» الذي نظّمته «رابطة العالم الإسلامي» في مارس (آذار) الحالي، يمكنُ النظر إليه بوصفه محطة في مسيرة تراكمية، تروم تعزيز قيم الاعتدال، ومواجهة خطابات التطرف والطائفية، فهو النسخة الثانية التي تُعقد تِباعاً، بعد أن أصدر المشاركون في المؤتمر الأول «وثيقة بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية» التي أكدت صراحة على أن «الشعارات الطائفية والحزبية بممارساتها المُثيرة للصدام والصراع المذهبي في طليعة نكبات الأمة، في امتدادٍ تاريخيٍّ مؤلمٍ شَهِدَ - بين مدّ وجزر - إشعالَ فتيلِ الغُلُوّالطائفي وإثارة الفتن، وما نتج عن ذلك من مآسٍ تعددت مصائبها، وانتهت إلى أحقاد وضغائن»، كما ورد في الفقرة الخامسة عشرة من «الوثيقة»، معتبرة في الفقرة الثانية عشرة أن «أحداث التاريخ ووقائعه دروسٌ وعِبرٌ تُلهم الأجيال المتلاحقة، فيستنسخون مفيدَ التجارب، ويجتنبون أخطاءها»، مضيفة: «لا يُقبل شرعاً ولا مَنطقاً استدعاءُ وقائعَ مضت، وسجالات خلت، أو اختلافات هي في صميم التعددية المذهبية، للنيل من وَحْدة الأمة وأُخُوّتها وتعاونها».

هذه «الوثيقة» هي رافدٌ لـ«وثيقة مكة المكرمة» الصادرة عام 2019، وهي واحدة من النصوص المرجعية المهمة في احتوائها على بنود صريحة تُحرم التكفير والتضليل وسفك الدماء.

هاتان الوثيقتان حظيتا بمباركة ملكية من لدُن الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، وصدرتا في مكة المكرمة، وفي شهر رمضان المبارك، أي أن هنالك بُعداً رمزياً لدلالة المكانِ والزمان، يضاف إلى ذلك أن الوثيقتين شارك في إعدادهما والموافقة عليهما جمعٌ من العلماء والمرجعيات الدينية والمفكرين المسلمين من مذاهب وطوائف وجنسياتٍ وأعراقٍ متنوعة، وبذلك فهما ليستا وثائق محدودة التمثيل أو ضيقة الرؤية، وإنما ركّزتا على الكليات الكبرى في الإسلام والمشتركات الإنسانية.

هنالك وعيٌ بدقة المرحلة التي تمر بها منطقة الشرق الأوسط خصوصاً، والدول الإسلامية عامة، وأن التطورات السياسية والأمنية الجارية تتطلب من المسلمين مزيداً من الحزم في مواجهة مسبباتِ الفتن، والتزودِ من دروس التأريخ، وعدم تكرار أخطائه المكلفة، فـ«كلناعلى علمٍ بأن المسارات السلبية للسِّجالات المذهبية لم تقتصر مآسيها على فاعليها، وإنما امتد شرَرُها إلى النَّيْل من الإسلام والمسلمين في وقائعَ مؤلمةٍ دوَّنها التاريخ في صفحاته المظلمة»، كما جاء في كلمة الأمين العام لـ«رابطة العالم الإسلامي» الشيخ محمد العيسى.

تحذير العيسى من «السجالات المذهبية» لا يعني رفض «التعدد»، فـ«‏لكل مذهبٍ أو طائفةٍ خصوصيته التي يدين أمام الله بها، ومن حقّه أن يعيش بها بكرامة الإسلام، والتآخي في التعايُش»، وفق الشيخ العيسى، الذي شدّد على أن «التضامُن المطلوب لا يعني بالضرورة القناعة بخصوصية الآخر، بل تفهّمها واحترام وجودها، ويعني كذلك أن مظلة الإسلام واحدة وأُخوته قائمة، وأن المشترَك واسع».

إذن، هذا التأكيد على «التعددية» يريد لها أن تكون عامل قوة وإثراء، وليس أداة ضعف أو تنازع، والطريق إلى ذلك هو «احترام الآخر»، وفق مبدأ «التعايش السلمي» المُرسخِ عبر «المواطنة العادلة»، ومبدأ «سيادة القانون» الذي ينظم علاقة جميع المكونات والمواطنين في الدولة المدنية الحديثة التي تحترم الهوية الدينية للجميع، ولا تقصيها!

«مؤتمر بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية» لن يكون الثاني والأخير، فهنالك استراتيجية تمضي عليها «رابطة العالم الإسلامي»، بدعم مباشر من المملكة العربية السعودية، تهدف إلى أن يصير الاعتدال هو السائد، وأن يكون هنالك خطاب واسعٌ يستطيع التصدي بفاعلية وحكمة وإقناع ووسائل حديثة ومرنة، للسرديات العنيفة والمذهبية، لأن كل ذلك سيجعل الأرضية حينها مهيأة لأن يُبنى المجتمع على أسس حديثة مدنية، يكون فيها الدين رافعة رئيسة للتقدم والنهوض، من خلال استحضار رحمانيته وتآخيه وحثّه على عمارة الأرض.

إن «رؤية المملكة 2030» ليست مشروعاً تنموياً اقتصادي وحسب، بل تقوم بعمل رئيس في التغيير الفكري الإيجابي، وتطوير المفاهيم، وخلق شبكة معرفية جديدة، تستبدل تلك القديمة الملتبسة والمغذية لممارسات ماضوية أو متطرفة تجاوزها الزمن.

من يتابع الجهود التي تبذلها السعودية حول «التطرف» سيقف على أن هناك مشروعاً مستمراً له 3 مستويات، كما أوضح في حديثه رئيس «أمن الدولة» عبد العزيز الهويريني، الذي قال إن ولي العهد الأمير محمد بن سلمان قد «بذل جهداً كبيراً»، فقد «قطعنا مراحل في تحطيم صناعة التطرف»، والآن «يقود مرحلة ثانية، هي الاعتدال. وفي ذات الوقت يعمل على صناعة أخرى، هي «صناعة التقدم».

إذن هنالك 3 مراحل: تحطيم التطرف، ترسيخ الاعتدال، صناعة التقدم. وجميعها مراحل مترابطة، تمهد كل مرحلة منها للأخرى، وتتكامل معها.

«مؤتمر بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية» هو إحدى الرافعاتِ المهمة في مرحلة «ترسيخ الاعتدال»، فهو يجمعُ الفقهاء والمفتين والمفكرين بهدف انخراطهم المباشر في صياغة مشاريع مشتركة، بآليات فعّالة، والدخول إلى مرحلة «المؤتلف الفاعل والتعاون الاستراتيجي»، من خلال تنفيذ التوصيات والبنود التي وردت في الاجتماع الأول العام الفائت، ضمن إطار مؤسساتي يتابع المشاريع المنبثقة، فالمراد هو التغيير الفعلي في المجتمعات المسلمة لتكون مساهمة في صناعة الحضارة وخير البشرية.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد