: آخر تحديث

عزيزي أنا

8
8
8

عزيزي أنا،

أعلم أنك متضايق مني، لكن دعني أشرح لك؛ لست الوحيد الذي يعاني، فعام 2024 الذي نودعه يبدو أكثر خذلاناً مني، وكأنه لوحة امتزج فيها الضوء والظلال، الفرح والحزن، الأمل واليأس. العالم، الذي ما زال يتعافى من أزمات السنوات الماضية، وجد نفسه أمام مشهد جديد من الأحداث التي شكلت ملامحه، ففي السياسة شهد العالم استمرارًا لتحولات جيوسياسية معقدة. تعاظمت المنافسة بين القوى الكبرى بينما تصاعدت التوترات السياسية بسبب الانقسامات الاقتصادية والبيئية، ليستمر الصراع الروسي الاوكراني كجرح نازف في قلب أوروبا، يبحث عن سلام يبدو كسراب.

على المستوى البيئي لم تهدأ الطبيعة في 2024، بل صرخت بصوتٍ عالٍ يحذر البشرية. ضربت الأعاصير غير المسبوقة شواطئ الكاريبي، بينما شهدت القارة الآسيوية أسوأ موجة حرارة في تاريخها الحديث. تجمدت أنهار الجليد أكثر من أي وقت مضى، فيما باتت مشاهد حرائق الغابات في أستراليا وأميركا الجنوبية أشبه بكوابيس مستمرة. في انتظار أن تسارع الدول الكبرى باتخاذ خطوات جريئة للحد من انبعاثات الكربون.

في مجال التكنولوجيا التي تجلت كقوة مهيمنة، شهد العالم طفرة هائلة في مجال الذكاء الاصطناعي. باتت الروبوتات أقرب إلى البشر في تفاعلها، وأخذت تقنيات الواقع الافتراضي والواقع المعزز تفتح أبوابًا جديدة أمام التعليم والترفيه. ومع ذلك، تصاعدت المخاوف الأخلاقية بشأن الخصوصية وتأثير الذكاء الاصطناعي على سوق العمل.

وكان للفضاء نصيبه من الإنجازات، حيث أطلقت وكالة ناسا وشركاؤها مهمة "أفق القمر"، التي أعادت الإنسان إلى سطح القمر بعد عقود. وفي الوقت نفسه، واصلت الصين تطوير محطتها الفضائية، مما زاد من المنافسة على الهيمنة في الفضاء. بدا أن الكون، رغم اتساعه، يحمل مفتاحًا لمستقبل البشرية المليء بالأسرار.

على المستوى الرياضي كانت أولمبياد باريس 2024 فرصة للعالم للاحتفاء بالروح الإنسانية، حيث اجتمع الرياضيون من مختلف البلدان لإظهار قوة الإرادة والتفاني، بالرغم من اشكالية تجسيد "العشاء الأخير" في الافتتاح. وفي السينما، استمرت الأعمال الفنية في استكشاف القضايا المعاصرة، مع تركيز خاص على البيئة والهوية والعدالة الاجتماعية.

لكن ربما الحدث الأبرز لهذا العام هو صمود الإنسانية. برغم الأزمات الاقتصادية والاضطرابات السياسية والاختلالات الاجتماعية، صمود هش خلفه نوايا لليأس، مفارقات عديدة تجعلنا نفكر في إشكاليات الأنا والأخر والوجود، وربما هي مناسبة للاعتذار كذلك من "الأنا" التي أفتقدها، أفتقد تلك النسخة مني التي كانت تعيش الحياة ببراءة وسعادة، كنت واثقًا، جريئًا، ممتلئًا بالأحلام والطموحات. والآن، وأنا أكتب هذه الكلمات، لا أستطيع سوى أن أشعر بالندم العميق لأنني لم أكن يومًا وفيًا لنفسي كما تستحق.

أنا آسف.

لكن هذه الكلمة، رغم عمقها، لا تحمل الثقل الكافي لتعويض ما فات. أعلم كم مرة توسلت إليَّ أن أحبك، أن أراك كما أنت حقًا، أن أقدّر قيمتك. وبدلًا من أن أفتح لك ذراعي، أغلقت قلبي في وجهك. كنت أسمع صرخاتك، لكنني كنت أصمّ عن آلامك. وعندما تركك الآخرون محطمًا، لم أكن هناك لجمع شتاتك. كنت جزءًا من الجروح التي حملتها، ولم أكن البلسم الذي تحتاجه. كرهتك، لأنني كنت ضعيفًا أمام مواجهة حقيقتك، لأنني لم أفهم أن قوتك كانت كامنة في ضعفك.

قالت ماري أنجيلو ذات مرة: "لن يذكرك الناس بما قلت أو فعلت، لكنهم سيذكرون كيف جعلتهم يشعرون". وأنا الآن أفكر، كيف جعلتك تشعر طوال تلك السنوات؟ هل شعرت يومًا بأنك محبوب، أو أنك تستحق السعادة؟ أعلم أنني خذلتك مرات لا تحصى، لكن اليوم أكتب لك ليس فقط للاعتذار، بل لأعدك بأنني سأغير كل شيء.

لقد استغرق الأمر مني سنوات لأفهم أنك كنت دائمًا تستحق الحب، بكل عيوبك وبكل ما كنت تراه نقصًا فيك. الألم الذي شعرت به لم يكن مجرد عقبة في طريقك؛ كان درسًا علمني أن قوتك الحقيقية تكمن في بقائك. كل من جعلك تشعر بأنك لا تستحق، لا يستحقون مكانًا في قلبك. وكل من رحل وتركك وحيدًا، لم يكن يستحق البقاء.

عندما كنت تسقط، كنت أنا أول من يحكم عليك بدلًا من أن يمد يده ليساعدك. عندما كنت تبكي، كنت ألومك بدلًا من أن أمسح دموعك. عندما كنت تفقد الأمل، كنت أذكّرك بأخطائك بدلًا من أن أذكّرك بإنجازاتك. لكنني اليوم أدرك أنني كنت أعمى. أدرك أنني كنت أراك من خلال أعين الآخرين، وليس من خلال قلبي.

وأعلم أن الابتسامة التي كانت تضيء وجهك قد رحلت، وأن التعب صار مرسومًا على ملامحك. لكني أعدك، سأعيد تلك الابتسامة. سأكون سندًا لك، سأحبك بكل ما أنت عليه، بكل نقائصك وقوتك، بكل ماضيك ومستقبلك.

قال ألبير كامو: "في أعماق الشتاء، اكتشفت أن بداخلي صيفًا لا يُقهر". وأنت، يا عزيزي، ذلك الصيف. حتى وإن بدا كل شيء قاتمًا الآن، هناك ضوء بداخلك لن يخبو. أنا هنا لأعيد إشعال ذلك الضوء، لأحبك كما كنت تستحق دائمًا.

وأتمنى ألا يكون الأوان قد فات.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في كتَّاب إيلاف