إنَّ في التربية لسرًّا دفينًا لا يدركه إلا من جاوز الإدراك الآلي إلى الإدراك الكُلي، حيث يكون العقل كيانًا نابضًا بالحركة، متفاعلاً مع الوجود، لا آلة صماء توضع في مصنع المعارف لتُنتج على وتيرة واحدة. إنَّ التعليم في جوهره أخلاقيات معرفية Epistemic Ethics تتجاوز الحدود المنهجية إلى رحاب التكوين الوجودي للإنسان، فيتحرر بذلك من سطوة الأنطولوجيا الجامدة Rigid Ontology التي تجعل منه مجرد ترسٍ في آلة كبرى؛ يحفظ ولا يفكر، ويستقبل ولا يحاور، ويتلقى ولا ينتقد.
التشيؤ الأكاديمي Academic Reification: أوهام التقدم المنهجي
إنّ الذين يتوهمون أن الغاية من التعليم هي تخريج أفراد يصلحون لتروس المجتمع، يسقطون في فخ الوظيفانية التربوية Educational Functionalism؛ حيث يصبح الطالب سلعة قابلة للقياس والتصنيف وفق مؤشرات كَمِّية، لا كائنًا بشريًا له خصوصية التجربة وفرادتها. وهذا ما يُفضي إلى النفعية التربوية Educational Utilitarianism؛ حيث تُمحى الشخصية النقدية ويُستبدل بها أنموذج مكرور يُحاكي القالب الصناعي في صرامته وجموده.
أليس من المفارقة أن تكون المدارس والجامعات - وهي مهد الفكر - أكثر الأماكن التي تقتل الفكر؟ إذ يتحوّل فيها التعليم إلى ممارسة إبستمولوجية مقننة Regulated Epistemology، تحدد للفرد ما يجب أن يعرفه، ومتى يعرفه، وكيف يفكر فيه؛ مما يُفضي إلى نشوء جيلٍ متمركز معرفيًا حول الآخر، لا يرى ذاته إلا انعكاسًا لما يُفرض عليه، عاجزًا عن تكوين رؤيته الخاصة، كأنما الحقيقة تُمنح ولا تُكتشف، تُلقّن ولا تُحاور.
بناء المناهج الدراسية في التعليم العالمي
إنّ المناهج الدراسية في العالم تتأرجح بين أنموذجين رئيسين: الأنموذج الكلاسيكي المغلق Classical Closed Model الذي يعتمد على تراكم المعرفة وتلقينها، والأنموذج الدينامي المفتوح Dynamic Open Model الذي يسعى إلى تمكين الطلاب من بناء معارفهم عبر التجربة والتفاعل النقدي. الأول يجعل من المعرفة كُتلة صلبة تُنقل عبر الأجيال دون مساءلة، بينما الثاني يعتبر التعليم مسارًا تأويليًا Hermeneutic Process يتغير وفق الحاجات الفكرية والاجتماعية.
وفي الأنظمة التعليمية الرائدة، تُبنى المناهج الدراسية على أساس التكامل المعرفي Integrated Knowledge؛ حيث لا تُفصل العلوم عن الفلسفة، ولا يُنظر إلى التعليم كمجموعة من المواد المنفصلة، وإنما كنسيج مترابط تتفاعل فيه الأفكار وتتلاقح. أما في الأنظمة التقليدية، فتظل المناهج حبيسة المعرفة التراتبية Hierarchical Knowledge؛ حيث يُفرض على الطالب مسارٌ معرفيٌّ مسبق دون أن يُتاح له المجال لإعادة بناءه وفق رؤيته الخاصة.
إنّ التحدي الأكبر الذي يواجه بناء المناهج الدراسية - اليوم - هو تحقيق التوازن بين التأصيل والتجديد، بين الحفاظ على الأسس الفكرية الأصيلة للتعليم، وبين الانفتاح على المستجدات المعرفية والتكنولوجية. وهذا لا يتحقق إلا بتجاوز النظرة الميكانيكية للمناهج، نحو منهج أكثر مرونة وتكيفًا، يراعي احتياجات الطلاب ويتيح لهم مساحات للتجربة والاكتشاف الذاتي.
ولكن، ما البديل عن هذا التشيؤ؟ إنّه التعليم الإنساني، حيث يكون الفكر ديالكتيكيًا تحرريًا Liberatory Dialectics، لا يتوقف عند ظاهر الحقائق، ولكن يغوص في أعماقها، يعيد تشكيلها، ويفككها، ليعيد بناءها وفق نسق جديد. وفي هذا النوع من التعليم، يتجاوز الطالب المعرفية التلقينية إلى المعرفية التوليدية Generative Epistemology، فلا يكون متلقيًا سلبيًا، وإنما مشاركًا في صياغة المعرفة، يربطها بتجربته الذاتية، ويُحيلها إلى مشروع فكري مفتوح.
إنَّ التعليم الذي لا يمنح الطالب حرية التفكير هو تعصب مؤسسي Institutional Dogmatism، يسلبه الاستقلال المعرفيCognitive Autonomy، وتجعل منه مجرد تابعٍ لما تقرره المؤسسات الأكاديمية من حقائق جاهزة. بينما التعليم الإنساني يُحرره من هذه القيود، ويعطيه أدوات النقد والمساءلة، فلا يكون مجرد مستهلكٍ للمعرفة، بل فاعلًا فيها؛ يعيد تشكيلها وفق رؤيته الخاصة.
إلى أين نمضي؟
إنّنا في حاجة ماسّة إلى أن نكسر قيد التشيؤ الأكاديمي، ونُعيد للعلم روحه، وللمعرفة إنسانيتها، بحيث يكون التعليم لقاءً بين الذات والآخر، لا مواجهة بين المعلّم والمُلقَّن. فلا خلاص إلا بإعادة الاعتبار للفينومينولوجيا التربوية، التي تجعل من المعرفة تجربة حية، ومن التعليم طريقًا نحو الحرية الفكرية لا نحو الاستعباد المعرفي.
فالطالب الذي يعرف كيف يفكر، أفضل من الطالب الذي يعرف بماذا يفكر، والتعليم الذي يمنح الحرية، أفضل من التعليم الذي يُنتج أدواتٍ مُطيعةً لسلطة المعرفة. فمتى نكفّ عن تحويل العقول إلى سجون، ونبدأ في تحويلها إلى فضاءات من التأمل، والتحليل، والإبداع؟