قضينا مع ترمب في ولايته الحالية ستة أسابيع، تبدو وكأنها ست سنوات، من فرط ما صرَّح وأعلن من مواقف جذرية، داخلياً وخارجياً. هذه الأسابيع السنوات، بالإضافة إلى ما كتبه عن نفسه في كتاب «فن الصفقات»، تمكننا من استنباط طريقة تعاطي ترمب مع «أصحاب الأعمال» الآخرين، حيث إن ترمب ينظر إلى الجميع كما ينظر صاحب بزنس إلى دائرة أصحاب البزنس من حوله. الجميع في منافسة، وكل منهم يحمل صفة من ثلاث: خصوم، شركاء، وأصحاب مصلحة يُصنَّفون لاحقاً حسب موقعهم من خططه. مع ملاحظة أن لا خصومة دائمة ولا شراكة دائمة. وكل معاملة، ومن ثم صفقة يديرها ترمب، لها غرض واحد: المكسب المباشر. الكلمة المفتاحية هنا ليست المكسب، كلنا نسعى إلى المكسب، الكلمة المفتاحية هي المباشر، الآني، الوقتي.
يَعتبر ترمبُ نفسَه أستاذ الصفقات، ومنتقدوه يقولون إنه استخدم كتابه لتحسين صورته وتضخيم قدراته. حتى لو كانوا على صواب لا نملك إلا قبول ما ورد فيه، فتلك صورة ترمب عن نفسه، والأنا المثالية لديه. ولا بد أنه وقد صار أقوى شخص في العالم سيستغل الفرصة ليثبت للجميع جدارته بما رواه عن نفسه.
ويحظي ترمب في وضعه الحالي بفرصة ذهبية في مجال السياسة، لم يوفرها له مجال البزنس؛ إذ لا تعود قوانين السياسة لتلاحق أصحاب الصفقات إن لم يوفوا بما وعدوا. كما لا تلاحق قوانين السياسة الدولة إن قررت القفز على تعهُّدات سابقة. كم من سياسي دمَّر أمماً ومضى دون عقاب، باستثناء الذكر السيئ في كتب التاريخ. وكم من سياسي دمَّر أمماً لكنه انتصر فكتب التاريخ. منشأ الفرادة في مجال السياسة أن قاعدته الأولى تمنح المنتصرين حق كتابة القواعد التالية. لكن انتظر. لا يعني هذا أن الموضوع محسوم. النصف الثاني من القاعدة الأولى يُقِرُّ بأن المهزومين عادة يتحدون تلك القواعد. فإن زاد عدد هؤلاء حتى تكتلوا في وزن راجح، أو مؤلم، أو قادر على إحداث نكاية باهظة، تغيَّرت القواعد. لولا هذا التدافع الدرامي لكان مسلسل الحياة مملاً.
ويُقال إن المفكرين الأكاديميين أسوأ الناس في الحُكم، لأنهم يُضَيِّقُون سَعَة حياتنا إلى حيِّز المعلوم منها. فيجعلون ما تَخْلُصُ إليه عقولُهم بمقتضى المعلومِ حَكَماً على المجهول. ويجعلون ما نستطيع تفسيره نظريّاً حَكَماً على ما نلمسه بالتجربة ونعجز عن تفسيره. هذا ضد الطبيعة وضد التاريخ. لو أحطنا بكل شيء علماً لتوقف الزمان قبل زماننا بزمان. لكنه لم يفعل، حتى والأرض تقول إنها تسير على نهج أملته السماء.
ينطبق الأمر نفسُه، ولكن في مرآة معكوسة، على بعض أهل البزنس في السياسة. هؤلاء يتجاهلون قيمة المشاعر البشرية ويضخمون قيمة الأرقام، إلى حد مُهلِك. فارق كبير بين أن تكون بعيداً عن المسؤولية، في مجتمع محكوم بالمشاعر، فتصرخ فيه أن أعمل عقلك، واحسبها، وأن تكون في موقع المسؤولية فتحوّل كل حساباتك إلى أرقام وأوزان مجردة. «مكانش حد غلب»، كما نقول في مصر.
بعقلية رجل الأعمال، يسعى ترمب إلى وضع أثقاله كلها في كفة، ثم يضخم هذه الأثقال بالدعاية، وبإرباك الخصم، ويخلق سياقاً يجعلك تستشعر خسارة فادحة على الأبواب، وأنك تغرق، فلا تجد من خيار سوى إنقاذ حياتك ولو بقَشَّة يقدمها إليك. هي نفسها على الأرجح القشة التي ستقصم ظهر البعير.
وربما ينجح ترمب بهذه الاستراتيجية في الحصول على مكسب مباشر. لكن هنا بالتحديد يتجلى عملياً الاختلاف بين عالمي البزنس والسياسة. العرف في الأول أن يحصل صاحب العطاء الأقوى على الصفقة كلها، وأن يخرج المنافسون بصفر، ويُعَزُّون أنفسَهم بالصفقة القادمة. أما في عالم السياسة، فالصفر غير مطروح، إلا بالاستسلام التام المفروض إلى أجل غير مسمى. هذه معضلة إدارة ترمب حتى الآن؛ يَعِد الرئيس بتحقيق السلام في قضية معقدة، فيرد منتقدوه: ولكن ما تعرضه ليس سلاماً، بل استسلام. ولو كان الأمر كذلك لحققه سابقوك ولاحقوك بسهولة.
خطتا ترمب لـ«السلام» في أوكرانيا وفي غزة مثالان على هذا. في كلتا الحالتين يكتب ترمب مشهداً أوَّل متفجراً على طريقة أفلام الأكشن، ويعد بمشهد نهاية سعيد، دون أن يتحمل عبء تحويل الرواية إلى دراما قابلة للتصديق بملء ما بينهما. يوكل ذلك إلى الآخرين، لكي يُسَلِّموه نسخة الكتاب النهائية، فيضع اسمه عليه، لينال جائزة نوبل للسلام، وربما للأدب أيضاً.
وعلى ذكر الأدب، كاتبُ الإثارة والرعب الأميركي ستيفن كنغ يكتب المشهد الأول بلا تخطيط لما بعده. تبريره: «إن كنتُ لا أعلم المشهد التالي فكيف للقارئ أن يتوقعه!».
وصفة تصلح تماماً لأفلام الرعب التي اشتهر بها.