يبدو أن الصراع بين حركتي فتح وحماس تجاوز حدود الخلاف السياسي ليصل إلى حالة من العداء المتجذر، ما يهدد وحدة المجتمع الفلسطيني وينذر بعواقب خطيرة على القضية برمتها. فحين تتغلغل الكراهية والنفور في العلاقات المجتمعية، تتحول السياسة من أداة لتحقيق المصلحة العامة إلى ساحة للصراعات الأيديولوجية والمناكفات الفصائلية.
لطالما ارتكزت السياسة، بمفهومها الحقيقي، على الحكمة والتدبير وتحقيق المنفعة العامة، كما أشار ابن المقفع في "كليلة ودمنة"، لكن الواقع يشير إلى أن العلاقات بين الحركتين الرئيسيتين تتسم اليوم بخطاب تصعيدي وسجالات حادة تتجاوز حدود النقد السياسي إلى التخوين والتكفير والإقصاء. والأخطر من ذلك أن هذه النزاعات لم تعد محصورة بالنخبة السياسية، بل امتدت إلى المجتمع، مؤثرة في أدق تفاصيل الحياة اليومية، من الزواج والمصاهرة إلى أساليب التربية والخطاب الديني والإعلامي.
ورغم أن الخطر الذي يواجه الفلسطينيين واحد، متمثلاً في الاحتلال الإسرائيلي والحركة الصهيونية، إلا أن هناك تباينًا متزايدًا في كيفية التعامل معه، مما يعمّق الانقسام. وفي هذا السياق، تتحول الشرعيات السياسية إلى أدوات إقصاء متبادل، حيث تسعى كل جهة إلى فرض سلطتها ونفي شرعية الأخرى، حتى لو أدى ذلك إلى قمع الحريات وفرض قيود صارمة على التعامل مع الطرف المقابل، وهو ما يذكّر بأساليب الاحتلال ذاته.
إقرأ أيضاً: أميركا وإسرائيل... من يتبع من؟
والمؤلم في هذه العلاقات أمران: الأول هو مستوى وعمق الخلافات، فهي خلافات لا تخضع لإطار سياسي أو شرعية ملزمة لكل منهما. فكلٌّ منهما يخلق شرعيته، وهذا أخطر ما في الخلافات بينهما، ولهذا دلالات سياسية عميقة، فالخلاف هنا بنيوي، له بُعد أيديولوجي وعقائدي يصل إلى حد إلغاء الشرعية الأخرى، ما يجعل كلًّا منهما قد يذهب إلى ليس فقط التشكيك، بل التخوين والتكفير والإقصاء. وكلٌّ منهما، دفاعاً عن شرعيته، يتعامل بلغة التهديد، بأن الشرعية الأخرى تشكل خطراً وتهديداً قد يصل إلى حد اعتبار كلٍّ منهما عدواً للآخر. وما يدعم هذا التوجه أن الخلافات لا تتوقف على لغة الخطاب، بل تصل إلى حظر أي تعامل لأبناء الحركتين كلٍّ منهما في المنطقة التي يسيطر عليها ويتحكم فيها.
وصلت الأمور في التعامل إلى استخدام الأساليب نفسها التي تلجأ إليها إسرائيل، من اعتقال، وفرض رقابة صارمة، واعتبار من يتصل بالحركة الأخرى يصل إلى درجة العمالة. وهذه كلها من مظاهر العداء أو محاولة خلق عدو ذاتي داخلي، وهو ما ينذر بتأصيل حالة الانقسام السياسي، وسيادة مظاهر التشدد في الحكم، وتراجع منظومة الحقوق والحريات، مع تراجع دور القوى السياسية الأخرى، وتقليص دور المؤسسات المدنية.
إقرأ أيضاً: إسرائيل وغلق ملفات القضية الفلسطينية
هذه الظاهرة، وهنا تكمن الخطورة الكبيرة، لا تقتصر على خطاب النخبة الحاكمة أو السياسية لكلٍّ منهما، بل قد تمتد وتنتشر بين المنتمين لكلٍّ منهما، وتتحكم في العلاقات المجتمعية، وتحول المجتمع إلى حالة من العداء غير المسبوقة، وتعبر عن نفسها في ظواهر ومناسبات كثيرة، تتعلق حتى بالزواج والمصاهرة، وتحكمها أيضاً حالة من عدم الثقة، وتخفي حالة من الكراهية والحقد. وهذه الظاهرة كفيلة بإجهاض الروح المجتمعية الواحدة، والنسيج الاجتماعي الذي تفاخر الفلسطينيون بوحدته وتماسكه.
ويمكن تلمّس ظاهرة العداء في الخطاب الديني الذي يصل إلى حد التكفير، والخطاب الإعلامي الذي يحمل مفردات تنفي الآخر، وفي التربية التعليمية والأسرية. وقد ساهمت قوى خارجية في تغذية روح العداء الذاتية، والهدف الاستراتيجي للعداوة الذاتية هو التخلص من القضية الفلسطينية بأقصر الطرق وأقل الآثام السياسية.
ويبدو أن هناك بُعداً وترسبات تاريخية تغذي حالة العداء، وذلك مع قيام السلطة واللجوء إلى أساليب القمع والاعتقال وكتم الحريات والملاحقات، وهي السياسات نفسها التي تُمارَس اليوم كلٌّ في منطقة حكمه وسيطرته. وقد زادت هذه الممارسات مع مرحلة سيطرة حماس على غزة والتمهيد لها.
هذه الظاهرة تحتاج إلى مراجعة نقدية ذاتية، والتصدي لها باسترجاع القيم الوطنية، ومراجعة كاملة للخطاب العدائي، والعمل على تنمية وتغذية الخطاب التصالحي. ظاهرة العداء هي أحد أهم وأخطر تداعيات الانقسام السياسي.