قبل أيام فتح الأستاذ محمد السيف النقاش حول الأمانة العلمية التي فقدت فبي منصات السوشال ميديا، بعد سطو أحد المغردين في "ثريد" على نتائج بحث الأستاذ علي العميم في كتاباته عن النفيسي التي نشرت في مجلة "المجلة" ثم في كتابه: "شيء من النقد شيء من التاريخ" ثم أفردها في كتابٍ مستقبل بعنوان: "عبدالله النفيسي الرجل، الفكرة، التقلبات".
علّق على هذا السجال الأستاذ مشاري الذايدي في هذه الجريدة الأسبوع الماضي كاتباً:"تجد صاحب حساب «منوّعات» يكتب عن حدث تاريخي أو شخصية معيّنة أو مفهوم ما، ثم يشحن الكلام بـ«شوية» صور وغرافيكس، وإذا كان فيه فيديو مصاحب فيه مؤثرات موسيقية حماسية، فـ«يا سلام»! يذيّل ذلك بقوله: إذا كنت مشغولاً فدعها في المفضّلة، جلّ المادة التي يحقن بها هؤلاء ما يُظنّ أنها من عندياتهم، موادّ مسلوبة ومسلوخة من صحافيين جادّين وباحثين رصينين، و«لا من شاف ولا من دري»!".
قلت في أكثر مناسبة أن النفيسي لايكلّ ولا يمل من التكرار، ويعيد الرواية بأساليب مختلفة، ومن المثير للسخرية أن لديه سيناريوهات بصرية في رواياته السياسية.
مثلاً ينقل عن مسؤول إيراني أن دول الخليج "مثل الفالوذة ، وقبل أيام في حوارٍ معه على بودكاست كويتي قال أن رئيس وزراء باكستان قال له أن دول الخليج "مثل البسكويت".
مقولاتٍ مثل هذه يتم تدويرها للنفيسي بوصفه من وجوه «الإخوان» التي راهنوا عليها للدعاية الأكاديمية والسياسية أو ما يفضله هو «التحليلات الاستراتيجية». يتردد في وصف نفسه؛ فهو تارة «تربية إنجليز» حيث بدأ تعليمه في مدرسة فيكتوريا بالقاهرة وأنهاها في قسم الدراسات الشرقية في كمبريدج، وأيقظ تفكيره - كما يقول - برتراند راسل، وهي رواية لا يصدقها الأستاذ علي العميم في كتابته عنه، وتاراتٍ أخرى يفر من ذلك البهرج والتزيد ليذكّر بصِلاته وعلاقاته بالإسلام السياسي، منذ أن ذهب إلى بيروت ودرس في الجامعة الأميركية وبدأ رحلته مع «الإخوان».
النفيسي في مذكراته استطرد في التعريف بعلاقة راسل بهروبه نحو «الإخوان»، إذ يقول في الصفحات الأولى من مذكراته ما خلاصته أن راسل أيقظه من سباته! (ويا ليته أيقظه كما فعل هيوم مع كانط) وإنما الإيقاظ الارتكاسي نحو مزيدٍ من الاضطراب والتخبط، أثمر مسيرة مشوبة بالتوجس من الأسئلة والهرب منها.
حاول العثور على موجّهٍ فكري بعدها لكنه صُدم من كثرة الخطباء لدى الإسلاميين منذ (خلية شهاب 1965) للتخطيط للعمل الإسلامي بالجامعة الأميركية ببيروت، لم يجد - كما يقول - أفضل من الإسلاميين الذين يصفهم بـ«الرفقاء السيكولوجيين».
وعلى فرض حقيقة كل ذلك الدويّ الذي أحدثه كتاب راسل: «لماذا لست مسيحياً؟» فإن النفيسي فشل علمياً في تحويل ذلك الإشكال ليحقق القلق المفيد، بل هرب من اضطراب الشك إلى البحث عن فضاء يحقق له حراسة سياجه الدوغمائي المصمت والمغلق والمحصن، وحسب ترتيب مذكراته فإن النفيسي عرف كتاب راسل في عام 1961 - 1962.
لم يتجه إلى البحث كما فعل كبار المسلمين الذين نازلوا شكوكهم وما هربوا منها، وكانت نتيجتها عشرات الأسفار، وكنوزاً من العلوم، كالحلاج، والسهروردي، وإخوان الصفا، والغزالي، وابن تيمية، وابن القيم، ومئات المتكلمين المسلمين الذين تهتز قلوبهم وتتأرجح بين الشك واليقين وما فتئوا باحثين لاهثين وراء صياغة حقائقهم وشق دروبهم نحو المعنى.
توجه النفيسي نحو حركة «الإخوان» بعد تركه دراسة الطب في لندن، ثم أخذته موجة تنظيم «الجماعة السلفية المحتسبة» أو جماعة جهيمان واستهوتْه في نهاية السبعينات، وقال في حوارٍ متلفز إنه بحث عن جهيمان لرؤيته، ضمن تعليقه على إشارة ناصر الحزيمي إليه بأنه كان يتطلع للقاء جهيمان، وما أنكر النفيسي ذلك، بل بعضهم يعد هروب النفيسي من الكويت إلى السعودية، مخترقاً الحدود أواخر السبعينات، كان الهدف منه أصلاً لقاء جهيمان حيث قُبض عليه وأُوقف في سجن الدمام.
وما كان التعاون مع الخارج بالنسبة للنفيسي موضوع شتيمة بل دعا إلى تكثيفها كما يطالب ضمن الملاحظات النقدية على العمل الحركي لـ«الإخوان» والتي نشرها ضميمة لمذكراته، يتمنى النفيسي من حركات الإسلام السياسي الإيغال في التعاون مع الدول الأخرى، ورغم تمدد الجماعة خارجياً فإن ذلك لم يُرضِه، إذ يقول في الملاحظة الرابعة على العمل الحركي: «هذه الجماعات سقطت في حفرة القطرية... هذه النظرة المتخلفة المنهزمة تتجاهل حقائق عظيمة الأهمية ومن أهمها هذه الموجات الفكرية والتنظيمية المتلاطمة، كيف لا تصيب الكويت وهي نقطة بل شظية جغرافية... لماذا نهاب الاتصال بالخارج سواء كان اتصالاً فكرياً أم حركياً؟ لتجتمع في مكانٍ ما من العالم الإسلامي لتنسّق دورها على مستوى عالمي، ما الضير في ذلك؟». (من أيام العمر الماضي الصفحات: 149 - 150).
وحين طالب النفيسي في إحدى محاضراته بتونس باغتيال الزعماء العرب وخطفهم وأن هذا كله في ذمته يوم القيامة، فإن تلك الموجات الثورية أعادته لذكرى لقائه الوحيد مع أبي الأعلى المودودي في لندن، إذ يصنَّف المودودي بأنه «من نفس عيار سيد قطب» (من أيام العمر الماضي ص: 72).
كيف يمكن لأكاديمي أن يطالب في محاضرة متلفزة له مجموعة من الشباب بمباشرة أعمال خطف واغتيال؟!
لدى النفيسي تكرار مملّ في كتاباته ومحاضراته، السخرية من مفهوم الدولة لصالح تمجيد الحركة طَبَع كل نتاجه، وما فتئ يثبط من عزائم الأجيال الصاعدة الطموحة لغرض قطع صلتها بواقعها، وتعليمها، وأوطانها هذا هو جوهر طرح النفيسي الممل.