تذكروا أنَّنا لا نعيش في السويد ولا في سويسرا ولا في هولندا، وإنما في بقعةٍ (عشوائية) فيها ضوضاء القبائل والطوائف والقوميات، وأمزجة متقلبة ومتنافرة، وعقول مؤجرة للفرد والحزب والطائفة والقومية والدين. وتذكروا أيضًا أنَّ تاريخ العراق فيه من الجمر والقحط والجفاف والمحن والحروب والحرائق والفيضانات والمظالم، ما ينفطر منه القلب. فإن بنا اليوم من الحزن، ومن البكاء المر ما يُبكي مدنًا بما فيها ومن فيها، بل وتتعجب منه الأمم.
عراق بدأ منه التاريخ؛ فكان أول مدنيّة في التاريخ، وأول من اخترع الكتابةَ والقانون وبناء المدن، ويفتخر بأنه جميلٌ وباهرٌ بأنبيائه وأنهاره وبساتينه ونخيله ومعارفه؛ لكنه كان، أيضاً، مخترعَ الألم والفواجع والكوارث، فقد عاش معه، وكأنه يستلهم منه حكمة التطور والحياة والبقاء. ومعادلة الحياة تقول: كيف يكون لدينا مساحة للأمل في البقاء، إذا لم يكن لدينا ألمٌ ووجع!
أهل العراق، الأكثر تساؤلاً من بين العباد عن الأمل والمستقبل، والبحث عن جواب لاستردادها. مثلما هو أكثرهم حسدًا لما يراه في البلاد الأخرى من سعادة مواطنيها ورفاهيتهم. وربما يكون الوحيد بينهم مَن يعيش فوق آبارٍ من النفط والثروات، وهو غارق في الفقر، وفي مستنقع اليأس.
قال لي صديق عراقي: كيف تحدثني عن الأمل وأنا أعيش في نار جهنم: اقتصاد متدهور يعانق الموت الذي يترصدنا. وحياة كلها مطبات أكثر مما توقعت؛ فحياتي مصدرٌ دائمٌ للتوتر والقلق. فأنا لا أنام الليل خوفًا من الغد؛ لأنني لا أستطيع تلبية حاجات أسرتي. أعاني من أمراضٍ مزمنة بلا دواء ومستشفيات تليق بالبشر. وأولادي عاطلون بلا عمل. وحياة لا أجد فيها سوى: أنين الفقراء، ومقابر الموتى، وخيم النازحين، والمتفجرات. وحكومات فاسدة تسرقنا -ليل نهار-، وتدمر الأمل في نفوسنا؛ لأنها الطريقة الأسهل للسيطرة علينا.
وأضاف: -من فضلك- لا تعطني الإجابة (الجاهزة) التي تعلمناها في المدارس والكتب، ولا تخبرني، فقط، أنه علينا أن نثق ونؤمن ونصبر، وأن كل شيء سيكون على ما يرام، لأننا صبرنا كثيرًا، وفقدنا الأمل، ولم نعد بشراً مثل الآخرين الذين يسكنون حدائق الحياة الجميلة. صدقني إن أكثرنا يتمنى أن يكون كلباً في أحضان عجوز تعيش في الغرب، أو بقرة سويسرية تحمل جوازاً يسمح لها بالتجول في بلدان الاتحاد الأوروبي!
لقد كان صديقي محقاً في بعض تصوراته للمشهد العام، فمعظم العراقيين يائسون من الحياة المليئة بالمظالم والفواجع، ويفقدون الأمل، وقد وجدوا صعوبةً في الاقتراب من التفاؤل، والانخراط في عملية التغيير بالتفكير الإيجابي بسبب ضغوطات الحياة. فالتفاؤل تفكير إيجابي، وهي عادة مُكتسبة. وكما قال الفقيه الصوفي ابن عطاء الله السكندري: (أيّ تفاؤل حينما تتكالب وتشتد المحن، وأي تفاؤل أعظم من أن ترى الخير في طيّات الشر، وأن ترى المحن منحًا، وأن ترى المنع عطاء، فأنت في قمة التفاؤل).
إقرأ أيضاً: الفضول الجميل
ليس العراقي بحاجة إلى النظر إلى الأسفل أو الوراء؛ بل هو بحاجة إلى النظر للأعلى وإلى الأمام. هذا هو الأمل؛ فالعيش في المشكلات سيمتص روح الأمل؛ لكن مع الأفكار الإيجابية سيجد الحل للوصول للأمل. لذلك عليه تدريب عقله على التركيز على أنماط التفكير الإيجابي. فهناك أمل تحت الأنقاض، وبين حنايا كل ألم أمل. لا فرق بين الألم والأمل سوى إن اللام تقدَّمت في الأولى وتأخرت في الثانية.
لا أريد تلطيف الواقع العراقي بالمبالغات والأحلام، فالشعور بالإحباط والألم شعورٌ منطقي خلال هذا الوقت العصيب من حياة المواطن العراقي؛ فهو يحتاج إلى بناء الزخم إلى الأمام للحفاظ على الأمل ثم الحفاظ عليه. والسر الحقيقي للخروج من اليأس هو إتقان فن الحفاظ على الأمل حيًّا، خاصة في الأيام التي يشعر فيها أن المشكلات تتفاقم وتتكتل ضده. ومن الضروري التركيز على المستقبل، وترويض النفس على الصبر؛ لأن كل عراقي لديه أيام شقاء وأيام نعماء.
إقرأ أيضاً: هل تتذكرون 14 تموز؟!
نعم، إنَّ العراق يعاني من مشكلات كثيرة ومتداخلة، إلا أن الشمس لا تزال تشرق في سمائه كلَّ صباح، والسماء هي محك الأمل. وينبغي أن يعرف بأن هناك أشخاصًا آخرين حول العالم مثله ينظرون إلى السماء، وأننا جميعًا نتشارك هذا الكوكب معًا. ولدينا القدرة على إيجاد حلول للمشاكل الصعبة، والتعلُّم أن نقول بأعلى صوتنا في أيام المحن والأحزان: إن من العسر يُسرًا.
تذكر أن الناس معادن تصدأ باليأس، وتتمدد بالأمل، وتنكمش بالألم. والأمل يُولد الأمل، وغالبًا ما يأتي الفرج بعد الضيق، وكن على يقين أن الحياة تتغير دائمًا. ويمكن للأشياء أن تتحسن بالإيمان والإرادة، وقد يبدو الأمر وكأنه تفاهة طائشة، ولكن كل تلك الأمنيات الجميلة التي تراها تتدفق في الخيال قد تتحقق، والتاريخ أكبر معلم: شعوب تعلمت الأمل من الم فواجع الحروب والكوارث والأزمات، وهي تصنع للعالم اليوم براءة اختراع العلوم والحياة. ولئن كان هناك ظلمة قبل الفجر؛ لكن الشمس دائمًا ما تعود من جديد.