يروى أنه في خضم الأزمة الاقتصادية الحادة التي عصفت بالعراق في تسعينات القرن الماضي بسبب الحصار الدولي على النظام العراقي اثر حرب تحرير الكويت. كانت هناك لجنة دولية تزور العراق لتقييم الحالة الانسانية في البلد. والعهدة على الراوي الذي قال "أن الرئيس العراقي صدام حسين" أقام مأدبة غداء فخمة على شرف أعضاء الوفد الزائر حيث زين مائدته بأفخر أنواع المأكولات والمشروبات. وكان هدف صدام أن يبين للوفد الدولي بأن الحصار الاقتصادي المفروض على البلاد لا تؤثر على السلطة الحاكمة وإنما تؤثر فقط على قوت الشعب العراقي الجائع جراء الحصار!!.
لو صدقت هذه الرواية فإن صدام حسين برغم طغيانه وجبروته وظلم وفساد نظامه القمعي قد أعطى درسا يمكن أن تعتبر منه القيادة الحالية ببغداد التي بدأت فعلا بانتهاج سياسة اقتصادية ظالمة ضد الشعب الكردستاني.
نحن لا نتهم السلطة العراقية بالطائفية ولا بالعنصرية، فالعراق تجاوز هذه المرحلة بعد سقوط النظام الفاشي رغم أن هناك البعض في النخبة السياسية العراقية ما زال يفكر بهذه العقلية الشوفينية. ولا يمكننا أيضا أن نبريء حكومة إقليم كردستان من جريمة استمرار الحصار المالي المفروض على كردستان، فهناك الكثير من المصادر الكردية وفي مستويات عليا بالقيادة العراقية أكدت "أن حكومة الإقليم تتملص من التزاماتها تجاه بغداد، وأنها تحاول اللف والدوران والتلاعب بالاتفاقات بينها وبين الحكومة الاتحادية، وأنها لم تسلم الكميات المطلوبة من نفطها ولا سلمت عائداتها المحلية ولا تريد أصلا التنازل عن سيادتها واستقلالها المالي عن بغداد" ولكن مع كل ذلك فإن مسؤولية دفع رواتب موظفي الإقليم تقع قانونيا ودستوريا على عاتق الحكومة العراقية وخصوصا بعد وقف تصدير النفط الكردي. فلا ذنب للموظف المسكين ولا للمتقاعد الجائع في الصراع الدائر بين الحكومتين الاتحادية والاقليمية. فما معنى أن تنضبط رواتب موظفي محافظات العراق بحيث تدفع شهريا وفي موعد محدد، فيما يحرم الموظف الكردي من راتبه لأكثر من شهرين؟!.
الموظف لا يملك سوى راتبه لتأمين معيشة أطفاله، والمتقاعد الذي أمضى نصف عمره في خدمة الدولة ليس له معين سوى راتبه التقاعدي، فكيف يجوز حرمانهم من مستحقاتهم بحجة معاقبة السلطة الحاكمة في كردستان والتي يمتلك كل فرد منها ملايين بل ومليارات الدولارات من أعمال السلب والنهب والفساد المستشري بكردستان، وبالتالي فهم ليسوا بحاجة أصلا لرواتب الدولة!.
السؤال الكبير هو "اذا كان إقليم كردستان جزءا من العراق، فلماذا هذا التمييز بين الموظف العراقي والموظف الكردي.؟!. أليس معيبا على الحكومة الاتحادية التي كانت تدفع رواتب موظفي المحافظات التي سيطر عليها تنظيم داعش في مرحلة ما، وتمتنع عن دفع رواتب الموظفين الكرد في اقليم كردستان الذي يعتبره الدستور العراقي جزءا من كيان الدولة العراقية"؟!.
أعرض أمام الحكومة الاتحادية للدولة العراقية هذه النصوص الدستورية راجيا منها إعطائي تفسيرا واضحا لهذه النصوص وما تعنيها العبارات الواردة فيها:
المادة 14 العراقيون متساوون أمام القانون دون تمييز بسبب الجنس أو العرق أو القومية أو الاصل أو اللون أو الدين أو المذهب أو المعتقد أو الرأي أو الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي.
المادة 15 لكل فرٍد الحق في الحياة والأمن والحرية، ولا يجوز الحرمان من هذه الحقوق أو تقييدها إلا وفقاً للقانون، وبناءً على قرارٍ صادرٍ من جهة قضائيةٍ مختصةٍ.
المادة 16 تكافؤ الفرص حقٌ مكفولٌ لجميع العراقيين، وتكفل الدولة اتخاذ الاجراءات اللازمة لتحقيق ذلك.
أين هي المساواة، وأين حق الفرد في الحياة، وأين تكافؤ الفرص إذن؟!.
ما يجري الآن على أرض الواقع هو العودة للحصار الاقتصادي الظالم على كردستان وتجويع متعمد للشعب الذي يفترض أن يتمتع كباقي العراقيين بحقوق متساوية وبالحق في الحياة الحرة الكريمة.
إذا أرادت الحكومة الاتحادية معاقبة سلطة الإقليم فهذا شأنها، ولكن معاقبة شريحة واسعة من شعب كردستان بجريرة حكامه وحرمان هذه الشريحة من قوتها هي بكل المقاييس حرب عدائية وعنصرية وجريمة بشعة ضد الانسانية..