مضت أكثر من ألفي عام على مقولة الفيلسوف اليوناني سقراط "أعرف أني لا أعرف شيئاً"، مقرّاً بأن التواضع من أعظم الفضائل، وأن أحكم الناس من يبادر بالإقرار بجهله.
لكن انقضى زمن طويل، ولم يستوعب الناس أن لحظة التواضع، هي تلك، التي يقر فيها الانسان بمدى ضآلة ما يعرفه، من دون أن يدحض قدرته على التعلم وحب المعرفة.
في بلدي تونس على سبيل المثال، هناك فئة من الأشخاص "العاديين" يتوقعون من أنفسهم أكثر مما يلزم، بل ويساورهم إحساس كاذب أن بمقدورهم حكم تونس، ولكننا لا ندري كيف سيصدق هذا الحلم! وإن تحقّق فبأي مؤهلات سيحكمون قرطاج؟
الطريف في الأمر تلقي الهيئة العليا المستقلة للانتخابات قبل عدة أيام أول ملف ترشح للانتخابات الرئاسية، المؤمل اجراؤها نهاية العام المقبل، للمواطن فتحي الكريمي وهو عون أمني سابق، ووظيفة لاتتطلب شهادات جامعية عليا ولا مؤهلات عليا.
مثل هذا الأمر لم يكن ليحدث قبل عقود، ليس بسبب الاستنتاج السائد عن الدكتاتورية والحاكم الصارم. بل لأن النخبة السياسية تخضع لتسلسل وظيفي وفكري واجتماعي، ليس من السهولة تسلقها من دون أن تكون لأي مجازف بالدخول إلى رواقات هذه النخبة، الخبرة الموازية والتجربة في العمل السياسي، وما يمكن أن يعرّف نفسه به للجمهور من مشروع سياسي أو حزبي. ومن بين هؤلاء مغني الراب كريم الغربي المعروف بـ”كادوريم” (43 عاما).
طبعاً، لا أحد ينكر على السيدين الكريمي والغربي ممارسه حقهما المضمون دستوريا، مثل بقية المرشحين التونسيين، ولكنها قائمة طويلة، نسبة كبيرة منها لا تمت بصلة إلى عالم الأكاديميين وخبراء السياسة وأساتذة القانون. لهذا أصبحت موضوع تهكم شعبي في الشارع التونسي ومواقع التواصل الاجتماعي، عندما دخلها أشخاص لا يحملون أي مشروع سياسي أو موقف جاد من الانتخابات. غير أن البعض منهم يدعي أن لديه نية حسنة للعمل بصدق لمنفعة البلاد والعباد، وهذا ليس أمراً سيئاً في حد ذاته، لكن النوايا الحسنة لا ترجم تلقائياً إلى مشاريع تنموية وممارسات ديمقراطية حقيقية.
المثير للاهتمام أن هؤلاء المرشحين يحاولون أن يخفوا حتى على أنفسهم، مدى ضحالة فهمهم للسياسة، ويكتفون بمحاولة خلق جو من التجاوب العاطفي الشعبي.
إقرأ أيضاً: ثروات "سبام" ولا في الأحلام
يشترط القانون على المترشحين جمع ما لا يقل عن 10 آلاف تزكية من الناخبين أو 10 تزكيات من نواب البرلمان او أي مجالس أخرى منتخبة. ولا نعرف كيف حصل هؤلاء على هذا العدد من التزكيات، أو هل حصلوا بالفعل على هذه التزكيات أم لا؟
فتحي الكريمي أثار الجدل بسبب الهندام الذي ظهر به خلال تقديم ترشحه لمقر هيئة الانتخابات، بربطة عنقه المفتوحة، حيث رآه كثيرون غير لائق، في حين أكد أنها مقصودة لإيصال رسالة للتونسيين. لكن ماهي الرسالة التي يريد بعثها، هل يريد أظهار الشخصية التونسية بأنها عبثية وغير مهتمة بالهنام، أم يسخر من الانتخابات نفسها؟
في وقت أعلنت وزارة الداخلية إيقاف الكريمي عن العمل وعرضه على لجنة التأديب، بسبب ترشحه للانتخابات الرئاسية دون الحصول على رخصة قانونية من الوزارة.
إقرأ أيضاً: تونس تحتاج سياسِيين لا عبثيين!
اخترت مثال الكريمي من بين العشرات من المرشحين للانتخابات الرئاسية التونسية، ربما لأنه المثل المثير للكثير من التساؤل في واقعنا "الديمقراطي" الجديد، فهل نحن فشلنا في استثمار فسحة الديمقراطية أو هكذا سميت لنا من دون أن تعبر عن حقيقتها، وهل نحن كتونسيين وعرب في المجمل شعوب لايمكن أن تكون ديمقراطية كما يزعم الغرب، لماذا لايوجد لدينا جدية في استثمار هذه الفرص، ولماذا يتحدث لدينا لصوص الدولة عن الديمقراطية كثيرا من أجل أن يسروق أموال الشعب عندما يصلون إالى السلطة؟
حزمة أسئلة تستحق أن نقترح إجابات لها ونتخذ من الانتخابات الرئاسية التونسية فرصة لإثارتها؟