: آخر تحديث

المكتبات العظيمة تصنع الأمم العظيمة

4
3
3

علي عبيد الهاملي

استبق مركز أبوظبي للغة العربية شهر القراءة، الذي بدأ يوم 1 مارس، بجلسة حوارية عقدها يوم 23 فبراير الماضي، استضاف فيها معالي زكي أنور نسيبة، المستشار الثقافي لصاحب السمو رئيس الدولة، الرئيس الأعلى لجامعة الإمارات العربية المتحدة، تحت عنوان «جسور الثقافة: القراءة والترجمة». قدم للجلسة رئيس المركز الدكتور علي بن تميم، وأدارها الأستاذ سعيد حمدان الطنيجي، المدير التنفيذي للمركز.

عقدت الجلسة الحوارية في بيت معالي زكي نسيبة بمدينة العين، وقبل بدايتها، ونحن ننتقل من داخل البيت إلى الساحة الخلفية، حيث أعد المكان للجلسة، لفتت نظري كمية الكتب التي رأيتها داخل ممرات البيت، وتلك التي أخذت مكانها على الرفوف المنتشرة في قاعاته، إلى جانب اللوحات التي توزعت على الجدران. وقد علمت من معاليه، وهو يدعوني لزيارة أخرى يطلعني خلالها على كتبه ومقتنياته، أن الدور العلوي من البيت لا يختلف عن الدور السفلي، وهو منظر أراه للمرة الأولى في بيت معد للسكن، وليس مكتبة كما اعتدنا أن نرى، الأمر الذي يدل على مدى ولع أبي أنور بالكتب واللوحات والقطع الفنية التي اقتناها على مدى أكثر من ستة عقود من الزمن.

الاهتمام بالكتاب هو ما دفع دولة الإمارات إلى تخصيص شهر للقراءة، بدأ الاحتفال به في عام 2017م، بعد أن أصدر مجلس الوزراء قراراً بتخصيص شهر مارس من كل عام ليكون «شهر القراءة» بهدف ترسيخ ثقافة القراءة في المجتمع، وتعزيز دور المعرفة في بناء الأجيال، ودعم رؤية الإمارات في أن تكون منارة للعلم والمعرفة. جاء هذا القرار استكمالاً للمبادرات الوطنية التي أطلقتها الدولة، مثل عام القراءة 2016، الذي كان نقطة انطلاقٍ نحو إرساء عادات القراءة كأسلوب حياة، ودعم المكتبات، وتحفيز الأفراد والمؤسسات على تبني مشاريع قرائية مستدامة.

عندما أعلن المغفور له الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، طيب الله ثراه، عام 2016 عاماً للقراءة، لم يكن ذلك مجرد شعار يُرفع، أو حملة عابرة تنطلق وتنتهي بانتهاء العام، بل كان مشروعاً استراتيجياً طويل الأمد، يؤسس لمستقبل يكون فيه الكتاب جزءاً من ملامح الحياة اليومية، وتكون فيه المعرفة ركيزة أساسية في بناء الفرد والمجتمع، فالإمارات لم تراهن يوماً على الموارد وحدها، بل راهنت على الإنسان، وجعلته في قلب مشاريعها التنموية، لأن الأمم لا تُبنى بالمباني الشاهقة وحدها، بل بالعقول المستنيرة، وبالوعي الذي يحرك المجتمعات نحو التقدم. ولهذا، جاء عام القراءة ليضع الكتاب في يد كل طفلٍ وشابٍ وكبيرٍ، وكل رجلٍ وامرأةٍ، لأن الدول التي تقرأ، هي الدول التي تكتب مستقبلها بنفسها، ولا تتركه للصدفة.

لم تكن القراءة يوماً ترفاً، بل كانت دائماً الوقود الذي يحرك عجلة الحضارة، فالأمم التي تصدرت المشهد عبر التاريخ لم تفعل ذلك بالسلاح وحده، بل بالمعرفة التي صنعت لها أدوات القوة. ولهذا، عندما قررت دولة الإمارات أن تجعل القراءة مشروعاً وطنياً، كانت تدرك أن بناء الإنسان ثقافياً هو الضمانة الحقيقية لاستدامة نجاحاتها.

عام القراءة لم يكن احتفالية مؤقتة، بل محطة انطلاقٍ نحو مستقبل مختلف، حيث تحولت المبادرة إلى استراتيجية وطنية للقراءة 2016 - 2026، وتم إقرار قانون القراءة، ليكون القانون الأول من نوعه في المنطقة، كي يضمن أن تظل القراءة جزءاً من السياسات التعليمية والتنموية في الدولة.

عام القراءة كان البداية، لكنه لم يكن النهاية، فمنه انبثقت مبادرات كبرى، وجاء تخصيص شهر للقراءة، هو شهر مارس من كل عام، ليؤكد أن القراءة ليست موسمية، بل هي حالة مستدامة يجب أن تترسخ في المجتمع.نحن نعيش اليوم في زمنٍ تتسارع فيه المعلومات، وتتنافس فيه الأفكار، زمن البقاء فيه لم يعد للأقوى، بل للأكثر وعياً ومعرفة، والرهان الحقيقي فيه ليس على ما نملكه من ثروات مادية، بل على ما نملكه من عقول قادرة على التفكير والإبداع، فالدول العظمى اليوم ليست هي التي تملك الجيوش الأكبر، بل التي تملك المكتبات الأضخم. وفي دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث المستقبل يُرسَم برؤية واضحة، لم يكن عام القراءة مجرد حدث، بل هو خطوة في طريق طويل، هدفه بناء مجتمع لا يقرأ فقط، بل يفكر، ويبدع، ويقود المستقبل بثقة وثبات، فالمكتبات العظيمة تصنع الأمم العظيمة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد