تسابق إسرائيل الزمن، وبالاستفادة من اللحظة الأميركية وعودة إدارة الرئيس دونالد ترامب، لإغلاق ملف القضية الفلسطينية وتحويلها إلى مجرد ملف إنساني، بنزعها عن أصولها التاريخية والقانونية والسياسية، متجاهلة أنَّ هناك شعبًا وأرضًا فلسطينية تمتد العلاقة بينهما لآلاف السنين، حصيلتها الهوية الوطنية لشعب لا يمكن محوه وطمس هويته، وأرضًا تجسد هذه الهوية.
والمفارقة الأولى أنَّ إسرائيل كدولة قامت على القوة وعلى سرديات لا واقع لها، وتم إنشاؤها وفقًا للقرار الأممي رقم 181 بشرطين أساسيين: الأول، القبول بقيام الدولة العربية الفلسطينية وعلى مساحة تقارب 44 بالمئة من مساحة فلسطين، والثاني، الالتزام بالقرار رقم 194 الخاص بعودة اللاجئين. لهذين الشرطين دلالات سياسية عميقة يمكن من خلالها التشكيك بعضوية إسرائيل في الأمم المتحدة كدولة لم تلتزم بهذين الشرطين.
لم تكتفِ إسرائيل بذلك، بل إنها تشكك في أي قرار من قرارات الشرعية الدولية، وآخرها قرار الجنائية الدولية باعتقال بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء ووزير دفاعه يوآف غالانت بسبب جرائم الحرب في غزة. لهذا القرار أهمية ودلالات سياسية عميقة تنال من شرعية إسرائيل كدولة وتبطل كل ما تقوم به من إلغاء للشرعية الدولية التي كانت أساس قيامها ووجودها.
أعود لملفات القضية الفلسطينية، ويتصدرها ملفان لهما الأولوية ويشكلان تهديدًا وجوديًا من وجهة نظر إسرائيل ونقيضًا لها كدولة قومية يهودية.
الملف الأول: الاعتراف بحل الدولتين والقبول بوجود دولة فلسطينية مدنية سلمية، رغم أن هناك أكثر من 124 دولة تعترف بها ولها مكانة الدولة المراقب في الأمم المتحدة وعضويتها في العديد من المنظمات الدولية. من وجهة النظر الصهيونية وقانون القومية اليهودية الذي تتبناه إسرائيل، فإنَّ قيام الدولة الفلسطينية يعني نقضًا ورفضًا للأساس الذي قامت عليه إسرائيل كدولة. والسؤال: ما هي استراتيجياتها للحيلولة دون قيام الدولة الفلسطينية؟
إقرأ أيضاً: حروب الكبار
البداية تعود إلى الأيديولوجية الصهيونية التي تقوم على سردية الحق التاريخي للشعب اليهودي في كل فلسطين، والمؤتمر الصهيوني الأول عام 1897، الذي نص على قيام الوطن القومي اليهودي مرورًا بوعد بلفور المنشئ للدولة اليهودية والرافض للدولة الفلسطينية. فجاء في الوعد قيام وطن قومي يهودي مع مراعاة حقوق الأقليات، ثم وضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني لتنفيذ وعد بلفور بالتأسيس لقيام الدولة اليهودية بنقل ملكية الأرض وقيام المؤسسات اليهودية وكبح أي ثورات فلسطينية. وصولًا إلى القرار الأممي 181 الذي نص على قيام إسرائيل كدولة على مساحة 54 بالمئة من مساحة فلسطين. ويأتي بعد ذلك الدور الأميركي والإسرائيلي.
وخلاصة الدور الأميركي تكمن في الالتزام ببقاء وأمن إسرائيل، وتوظيف الفيتو الأميركي ضد قيام الدولة الفلسطينية، وصولًا لما نراه اليوم من خداع ووهم حل الدولتين، وما قامت به إدارة ترامب من الاعتراف بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل، وغلق مكتب المنظمة في واشنطن، وغلق القنصلية الأميركية في القدس.
واليوم، مع عودة هذه الإدارة وتشكيل الفريق الذي سيتولى الإدارة الأميركية وكلهم من المنحازين لإسرائيل، يتجدد الحديث عن توسيع إسرائيل وعدم قيام الدولة الفلسطينية، والوعد بتأييد ضم الضفة الغربية التي تشكل منطقة القلب لفلسطين بمساحتها العشرين بالمئة.
إقرأ أيضاً: غزة ونظرية دورة الحرب
ولا ننسى موقف إدارة الرئيس بايدن من الحرب على غزة، والحيلولة دون صدور أيّ قرار من مجلس الأمن لوقف الحرب وإدانتها، والفصل بين السلام العربي والدولة الفلسطينية، والتغاضي عن كل ما تقوم به إسرائيل من قضم وهضم للأرض الفلسطينية وعدم ترجمة حل الدولتين إلى واقع قائم.
أمَّا إسرائيل، فتضع عدم قيام الدولة الفلسطينية كأولوية عليا تقابل أمنها وبقاءها. ولتحقيق هذا الهدف، تتبع استراتيجيات كثيرة تقوم على الحرب والقوة بكل مستوياتها في التعامل مع المتغير الفلسطيني. بدءًا من حرب 1948 وضمها ما يقارب 25 بالمئة من المساحة التي كانت مخصصة للدولة الفلسطينية وفقًا للقرار الأممي المذكور، ثم حرب 1967 وضمها كل الأراضي الفلسطينية في الضفة وغزة، وما زالت تحتلها حتى يومنا هذا.
إقرأ أيضاً: أوسلو وجدل الإلغاء المتجدد
ومنذ اليوم الأول، تقوم استراتيجية إسرائيل على شغل كل الأراضي الفضاء ببناء المستوطنات وتهويد الأراضي الفلسطينية وتهويد القدس باتباع سياسة التدرج، ثم توظيف اتفاق أوسلو الذي كان هدفه مجرد قيام سلطة حكم ذاتية وظيفتها إدارة شؤون أكثر من ثلاثة ملايين نسمة، والتغطية على عملياتها الاستيطانية، والتحكم في كل موارد السلطة الفلسطينية وحرمانها من ممارسة أي شكل من أشكال السيادة. وتبني إسرائيل استراتيجية فصل غزة عن الضفة الغربية، واليوم الهدف الرئيس من الحرب على غزة تعميق هذا الانفصال وإجهاض نواة الدولة الفلسطينية، لتكتمل الدائرة مع أكثر الحكومات اليمينية والدينية المتشددة في إسرائيل بتبني استراتيجية الضم لكل الضفة الغربية انتظارًا لإدارة الرئيس ترامب.
ويبقى السؤال: هل تنجح إسرائيل في دفن حل الدولتين؟ هذا ما سأناقشه في مقالة قادمة.