ليس بوسع ساسة إسرائيل، يستوي منهم المتربعون على كراسي الحكم في تل أبيب، مع الزاعقين من صفوف مقاعد المعارضة في الكنيست، أن يطالبوا الفلسطينيين، أو أي مِن العرب أجمعين، بإثبات جديتهم في طلب سلام عادل يعطي كل ذي حق حقه، ويوفر الأمن والاستقرار، الطمأنينة والازدهار، لكل شعوب المنطقة، بلا تمييز يستند إلى أساس العرق، أو الدين. على العكس من ذلك تماماً، شاء الإسرائيليون أم أبوا، أفضل لهم كثيراً أن يقروا، أولاً بينهم وبين أنفسهم، وثانياً أن يعترفوا لغيرهم، أن العرب كافة، وفي مقدمهم الفلسطينيون عبر أطارهم الرسمي المعترف به عالمياً، أي منظمة التحرير الفلسطينية، مدوا أيادي السلام، وأقدموا على ما يتطلبه من مرونة شملت تقريباً كل الجوانب التي بدت في أوقات سابقة من المحظورات، بغرض التوصل فعلاً إلى تحقيق السلام العادل بين العرب وإسرائيل.
فلسطيني يرفع علم بلاده (يمين) في القدس الشرقية يوم 25 فبراير (شباط)، أ ف ب |
حصل هذا الإقدام العربي على إعطاء السلام فرصة منذ ذهاب الرئيس محمد أنور السادات إلى إسرائيل في زيارته للقدس، التي فاجأت العالم كله آنذاك، بمن فيهم الإسرائيليون أنفسهم، والتي جرت يوم التاسع عشر من نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1977. يومذاك ألقى أنور السادات الخطاب الشهير في الكنيست، الذي تضمن الإعراب عن الأمل أن تكون حرب أكتوبر (تشرين الثاني) عام 1973 آخر الحروب العربية - الإسرائيلية. بعد ذلك، دخل قطار التفاوض العربي - الإسرائيلي أكثر من مسار، توقف قليلاً في غير رصيف، تمهل أحياناً بأمل قطف بعض الثمار، لكنه تعطل تماماً عند محطات عدة. بيد أن النجاح الأول والأكبر والأهم، حتى الآن، تمثل في تمكن إدارة الرئيس جيمي كارتر، من تحقيق أول اتفاق صلح بين إسرائيل والبلد العربي الأقوى عتاداً، والأكثر عدداً، مصر، التي عُرِّفت دائماَ، طوال حروب سحيق الأزمان، بأنها تمثل "جائزة كبرى" لكل متمكن منها. حصل ذلك حين جرى توقيع اتفاقات كامب ديفيد، يوم السابع عشر من مثل هذا الشهر عام 1978.
|
إلى ذلك، فإن خيبة أمل صادمة كانت في انتظار الجانب الإسرائيلي، تمثلت في الجفاء الذي قوبل به إبرام اتفاق السلام معها من قبل معظم المصريين. وعندما كانت بعض الجهات الإسرائيلية تبدي الامتعاض أمام دوائر رسمية في مصر إزاء واقع "السلام البارد"، كانت خلاصة ردها تقول إنها لا تستطيع فرض موقف معين على شعبها. أما الذي غاب عن الطرف الإسرائيلي في فهم سر الجفاء الشعبي في مصر، وغيرها، فهو الرفض الإسرائيلي المتواصل لحق الفلسطينيين في دولة حقيقية، وليست شكلية، عاصمتها القدس الشرقية، فوق جزء من أرض أجدادهم.
ها هي ذكرى حرب أكتوبر 1973 تطل بعد أيام، فهل كانت آخر الحروب كما آمل الرئيس السادات أمام الكنيست الإسرائيلي نفسه؟ كلا، لم تكن كذلك، لأن ساسة تل أبيب لم يكونوا جديين أساساً في طلب السلام مع العرب أجمعين، ولو أنهم كانوا كذلك، لتجاوبوا إيجابياً مع كل مسعى عربي في اتجاههم من قبل اتفاقات كامب ديفيد، منذ قبول الرئيس جمال عبد الناصر، ومعه العرب جميعاً، قرار مجلس الأمن رقم 242 الذي نص على سلام بين إسرائيل وجيرانها العرب، مقابل انسحابها من كل الأراضي التي احتلتها في حرب 1967. ثم، بعد ذلك، كانت المبادرة العربية في قمة فاس، وبعدها قمة بيروت، فما الذي بالوسع تقديمه، عربياً، أكثر من ذلك؟ منطقياً، لا شيء، المطالبون بإثبات أنهم جادون فعلاً هم الساسة الإسرائيليون قبل غيرهم. لكي يحصل ذلك، عليهم أن يوقفوا عناد الإصرار على معادلة مضحكة خلاصتها أن "ما لنا ... لنا، وما لكم ... لنا ولكم"، كذلك أفضل لهم ولمسار السلام العربي - الإسرائيلي عموماً، أن يكفوا عن الطمع في استكمال التطبيع عربياً وفق المثل الإنجليزي الشائع عالمياً:
"Having The Cake And Eating It Too"
|
ذلك مثل يسخر من بعض الناس، عندما يطالبون، مثلاً، بتحسين خدمات التعليم، ويتذمرون إذا أقدمت الدولة على رفع المستحقات الضريبية، لتسديد نفقات بناء مدارس جديدة. وهكذا يبدو حال ساسة إسرائيل، من كل الأطياف، عند التعامل مع مبدأ السلام ككل. إنهم يريدون وضع اليد على قالب الجاتوه، ثم التهامه أيضاً، مع السعي أن يتم كل ذلك بالمجان التام، وضمان ليس فقط عدم دفع الثمن المقابل، كلا، بل أيضاً وضع ما يحلو لهم من الشروط. في عالم يتغير كل ثانية، لم يعد ممكناً أن يتواصل أسلوب التحايل الإسرائيلي إلى الأبد.