: آخر تحديث

كارتر.. رمز العدالة الاجتماعية والسلام

15
15
12

في أواخر عام 2024، فقد العالم الرئيس الأميركي التاسع والثلاثين جيمي كارتر، عن عمر تجاوز المئة عام. برحيله، طويت صفحة مشرقة من التاريخ السياسي والإنساني لرجل عاش حياته لخدمة وطنه والإنسانية بأسرها. كارتر لم يكن مجرد رئيس للولايات المتحدة، بل كان نموذجاً للسياسي الذي قاد بفكرٍ إنساني وروحٍ مفعمة بالإيمان بالسلام والعدالة.

ولد كارتر عام 1924 في بلدة صغيرة بولاية جورجيا لأسرة متوسطة الحال. كان والده يدير متجراً صغيراً، وعاش جيمي طفولة متواضعة وسط مجتمع يضم نسبة كبيرة من الأمريكيين ذوي البشرة الملونة، مما صقل لديه قيم التآخي والعدالة الاجتماعية. في ظل هذه الظروف، نما وعي كارتر بالمساواة وضرورة مناهضة العنصرية، وهو ما ظهر جلياً في مسيرته السياسية لاحقاً.

بعد تخرجه من المدرسة الثانوية، التحق كارتر بالكلية البحرية، حيث حصل على شهادة في الهندسة عام 1946. خلال مسيرته في البحرية، أظهر كارتر تميزاً لافتاً، ما دفع الأميرال هايمان ريكوفر، الذي يُعرف بـ"أبو الغواصات النووية"، إلى اختياره ليكون جزءاً من فريق تطوير برنامج الطاقة النووية للأسطول الأميركي.

في عام 1952، شارك كارتر في احتواء حادث نووي خطير في مفاعل "تشالك ريفر" الكندي، حيث تطلبت المهمة شجاعة ودقة بالغة، وهو ما أظهره كارتر بامتياز. لكن وفاة والده عام 1953 أجبرته على العودة إلى بلدته الصغيرة لرعاية أعمال العائلة. هذه الخطوة بدت آنذاك تواضعاً من بحار ومهندس بارز، لكنها كانت تمهيداً لدخوله عالم السياسة.

بدأ كارتر مسيرته السياسية بانضمامه إلى الحزب الديمقراطي، حيث أصبح مدافعاً عن الحقوق المدنية ومناهضاً للتمييز العنصري. في عام 1963، فاز بمقعد في مجلس شيوخ ولاية جورجيا، ثم شغل منصب حاكم الولاية بين عامي 1971 و1975. كان لكارتر أسلوب سياسي فريد يتميز بالبساطة والتواضع، ما أكسبه دعم الجماهير ومهد الطريق لترشحه للرئاسة عام 1976.

جاء انتخاب كارتر رئيساً في فترة عصيبة أعقبت فضيحة "ووترغيت" وحرب فيتنام، حيث كان المجتمع الأمريكي يبحث عن قائد يعيد الثقة في القيادة. كارتر، بشخصيته البسيطة وأسلوبه المميز، كان رمزاً للأمل. خلال ولايته، اتخذ قرارات جريئة عكست قناعاته الراسخة، مثل العفو عن رافضي الخدمة العسكرية في حرب فيتنام، في خطوة تهدف إلى رأب الصدع داخل المجتمع الأمريكي.

على الصعيد الدولي، كان لكارتر دور بارز في تعزيز السلام. تمكن من التوسط لتوقيع اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل عام 1978، والتي أنهت حالة الحرب بين البلدين ووضعت أسساً لسلام مستدام. كانت هذه الاتفاقية إنجازاً غير مسبوق جعل كارتر يُذكر كرئيس عمل على تغيير مسار السياسة الخارجية الأمريكية نحو التركيز على حقوق الإنسان والسلام.

إقرأ أيضاً: جواز السفر.. وثيقة القهر السوري اليومية

رغم إنجازاته، واجه كارتر تحديات كبيرة خلال فترة رئاسته. أبرزها أزمة الرهائن الأميركيين في إيران، والتي انتهت بفشل عملية إنقاذ عسكرية أسفرت عن مقتل ثمانية جنود، ما أثر سلباً على شعبيته. بالإضافة إلى ذلك، كان ارتفاع معدلات التضخم والبطالة داخلياً سبباً في تراجع الدعم له. في الانتخابات الرئاسية لعام 1980، خسر كارتر أمام رونالد ريغان، لكنه غادر البيت الأبيض محتفظاً بكرامته وقيمه، وبدأ فصلاً جديداً من حياته.

بعد تركه للرئاسة، لم يتراجع كارتر عن التزامه بخدمة الإنسانية. أسس "مركز كارتر"، الذي عمل على تعزيز الديمقراطية، مراقبة الانتخابات، وحل النزاعات الدولية. كان لكارتر دور بارز في مكافحة الأمراض الفتاكة مثل دودة غينيا، حيث ساهمت جهوده في القضاء على المرض في عدة دول.

حصل كارتر على جائزة نوبل للسلام عام 2002 تقديراً لجهوده المستمرة في تعزيز حقوق الإنسان والسلام العالمي. بقي كارتر رمزاً عالمياً للقيم الإنسانية، متنقلاً بين مناطق النزاعات، داعياً للسلام والعدالة في كل مكان.

إقرأ أيضاً: ما مبرر قمع الصحفيين في سوريا؟

برحيل جيمي كارتر، فقد العالم شخصية نادرة جمعت بين التواضع والشجاعة، وبين قوة القيادة وصدق الالتزام بالقيم. عاش كارتر حياته مدافعاً عن حقوق الإنسان، ساعياً لتحقيق العدالة الاجتماعية والسلام العالمي. لم تكن قيادته مجرد منصب سياسي، بل كانت رسالة إنسانية تجسد الإيمان بالخير والعدالة.

وداعاً جيمي كارتر، رمز العدالة الاجتماعية والسلام الذي أثبت أن القيادة ليست في القوة وحدها، بل في القدرة على بناء عالم أفضل للجميع. برحيله، خسرنا ضميراً عالمياً وإنساناً آمن بأن العمل من أجل الخير يمكن أن يغير العالم.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في كتَّاب إيلاف