: آخر تحديث

الكاهنة العراقية التي تُسحر الورق بتعاويذ الحبر

15
14
15

إنعام كجه جي ذاكرة عراقية تمشي على الورق، تكتب بحس إنساني عميق يعيد تشكيل ملامح العراق في وجدان كل من يقرأها.

هناك كُتّاب يرسمون الحكايات، وهناك كُتّاب يحيونها، ثم هناك إنعام كجه جي، التي لا تكتب فقط، بل تصنع عوالم تعيش فيها الأرواح المنسية. إنعام نبض العراق العميق وحارسة الذكريات، ومُنشدة أرواح أجيالٍ عاشت بين الحروب والغربة والانتماء الممزق وانا منهم ، إنها (نَبّو العصر الحديث)، الكاهنة التي تحمل إرث الإلهة السومرية للكتابة والحكمة، فتنسج الكلمات ليس بالحبر، بل بالروح.

عندما تقرأ إنعام كجه جي، لا تقرأ كتاباً بل تخوض رحلة؛ كلماتها ليست حروفاً على ورق، بل أبواب تفتح عوالم موازية مليئة بالحنين والوجع والحب والانتصار والهزيمة احياناً. أعمالها، مثل "طشاري" و"الحفيدة الأميركية" مرايا تُظهر لنا العراق الذي لا نراه في الأخبار، عراق الناس الذين يصنعون التاريخ بألمهم وبأملهم. أبطالها ليسوا خارقين، لكنهم يحملون قوة تعادل قوة الأساطير؛ إنهم نساء ورجال عاديون، لكن عاديتهم تلك هي سر عظمتهم.

في نصوصها، تُعيد إنعام تشكيل العراق، ليس كجغرافيا، بل كحالة شعورية تمتد عبر الزمان والمكان. العراق في كتاباتها ليس وطناً يحدّه نهران، بل قصة لا تنتهي، وألم مستمر ينبض بالحياة، وحبٌ يرفض الانكسار. أبطالها هم العراق: ببساطته وتعقيداته، بجراحه وأمجاده، بضحكاته ودموعه. كل صفحة تخطها إنعام تُشبه نشيداً وطنياً بصوت خافت مكتوب ببراعة منجل ودقة رصاصة ليحمل في طياته كل الصخب الذي عصف بالأرض والشعب.

مثل "نَبّو" التي حمت الحكمة في ألواح الطين القديمة، تكتب إنعام لتحفظ ذاكرة أمة تُحاول الحياة رغم كل ما مرّت به. هي الكاتبة التي لا تروي الحكايات فحسب، بل تُعيد خلقها من العدم، تجعل القارئ يرى العراق ليس كأرضٍ مزقتها الحروب، بل كروح لا تنطفئ، كهوية تُقاوم الفناء. حينما تسرد إنعام قصص النساء اللواتي يعشن في الظلال، أو الرجال الذين تركوا أحلامهم على أبواب الغربة، فهي لا تعيد الماضي فقط، بل تُضيء شمعة للغد.

إقرأ أيضاً: قائد ملهم يرسم ملامح مستقبل الحدود الشمالية

ما يجعل إنعام مختلفة هو أنها لا تكتب لتُثير الإعجاب، بل لتُثير المشاعر. إنها تُعيد تعريف الكتابة كفعل روحاني، كأداة لاكتشاف الذات وفهم الآخر. كلماتها تشبه الموسيقى؛ تبدأ بهدوء، ثم تتصاعد لتصل إلى ذروتها، فتُشعر القارئ بأنه لا يقرأ فقط، بل يعيش، يسمع، ويتنفس. هي لا تسعى لخلق نصوص مُبهرة، لكنها تخلق تجارب تُغير من يقرأها.

إنعام ليست كاتبة للأبراج العاجية، بل هي صوت الشعب، صوت المنسيين، صوت من فقدوا الوطن لكنهم لم يفقدوا الإيمان بأنفسهم. رواياتها هي رسائل إلى كل من يشعر بالغربة، سواء كانت غربة مكانية أو داخلية. هي تقول لهم: أنتم لستم وحدكم، حكاياتكم تستحق أن تُروى، وأرواحكم تستحق أن تُحيا.

إنعام عراقية تُجسّد الكتابة وفي كل كلمة تكتبها، تسمع صوت الأنهار القديمة، تُشمّ رائحة الحقول، وتلمس ألم المدن التي لم تعد كما كانت. هي بغداد بفرادتها، والبصرة بنخيلها، وكربلاء بحزنها، والموصل بجراحها التي لم تندمل. هي العراق بكل تناقضاته، بكل ألمه، بكل جماله.

إقرأ أيضاً: جزيرة سامناو: حيث تبدأ الحياة من جديد

حينما تفكر في إنعام كجه جي، تفكر في شخص يُعيد تعريف الأدب. هي ليست فقط كاتبة تُثير الإعجاب، بل مُلهمة تُثير الدهشة. هي لا تكتب لتبقى نصوصها في المكتبات، بل لتبقى في القلوب. كل كتاب لها هو دعوة للتأمل، للمصالحة مع الماضي، وللبحث عن المستقبل.

إنعام كجه جي هي نَبّو العصر الحديث كاهنة الحكاية العراقية، التي تُعيد كتابة تاريخ شعبها بكل عظمة وألم وجمال.…!


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في كتَّاب إيلاف