ربما نبدأ سلسلة نتحدث فيها عن بعض المشاكل الجيوسياسية والتاريخية والتوترات التي تعاني منها بعض الأعراق على الكوكب، ونستهلها في هذا الطرح بالعرق الأكثر إثارة للجدل طوال تاريخه، أو بمعنى أدق طوال التاريخ، وهم اليهود. وسوف نتحرى عدم الإساءة العنصرية أو الطائفية فيما سنطرح، على أن يقتصر الطرح على الوقائع المرتبطة بالأحداث على الساحة وجذورها التاريخية.
واليهودية عقيدة مغلقة طبقاً لتعاليم اليهودية الأرثوذكسية، فلا تستطيع اعتناق اليهودية إلا إذا كانت أمك يهودية بنت يهودية. والعرق الوحيد الذي يرتبط اسمه بديانته منذ فجر التاريخ هم اليهود أو "بنو إسرائيل" في التسميات الدينية، وإن كان قد أضيف لقب الإسرائيليين فيما بعد وعد بلفور. وبالإضافة إلى الأحداث التوراتية المؤلمة، لم يذق عرق من أهوال في كل العصور مثل ما ذاقه اليهود: اضطهاد ديني، واضطهاد عرقي، واضطهاد اجتماعي، واضطهاد اقتصادي، واضطهاد سياسي، وذلك على مر التاريخ. وكان اليهود عرقاً مرفوضاً وأحياناً منبوذاً، وإن كانت محارق هتلر هي العنوان الأبرز لاضطهادهم في العصر الحديث، إلا أن مآسيهم التوراتية منذ خروجهم من مصر تفوق ما فعله بهم هتلر بكثير، بدءاً من السبي البابلي وحتى تشريد "شعب الله المختار" في غيتوهات انتشرت في كل أرجاء الكوكب.
إقرأ أيضاً: أسماء الأشياء... الحصاد المر
وفي العصور الوسطى، حيث كانت الكنيسة الكاثوليكية في أوج سلطتها الدينية الواسعة، حرمت الربا ضمن أنشطة أخرى، لكنها تركت لليهود هذا المجال مفتوحاً نظراً لأهميته الاقتصادية، ومن ثم مارسوه في كل المجتمعات التي يعيشون فيها بمباركة وتشجيع وأحياناً بمشاركة مستترة من الأمراء والنبلاء. ولقى نشاطهم رواجاً حيث كانت حرفيتهم وتنظيمهم على أعلى مستوى، ومن هنا كانت اللبنة الأولى لإنشاء البنوك والمصارف في كل أوروبا، وأصبحوا هم - أي اليهود - الرواد الأوائل لهذا المجال، وربما لا يزالون حتى اليوم. لكن نمو نشاطهم المتسارع وسيطرتهم على مفاصل النشاط الاقتصادي في مجتمعات مثل ألمانيا، أثار حفيظة الكثيرين وعلى رأسهم الكنيسة، وخصوصاً بعد أن تحولت سيطرتهم الاقتصادية على المجتمعات التي يعيشون فيها من حالات فردية إلى كيانات منظمة. لكن التصقت بهم صفة المرابين الجشعين، فنمت باضطراد موجات الكراهية لهم، وقد عبر شكسبير عن ذلك في روايته "تاجر البندقية". وبدأت موجات كراهية منظمة ضدهم في كل أوروبا، إلى أن بلغت أوجها بصعود نجم هتلر، الذي اقترف أبشع جريمة في التاريخ.
إقرأ أيضاً: أمة المهاجرين
وعندما بدأت الحركة الصهيونية بتنظيم موجات هجراتهم إلى فلسطين، جاءوا محملين بكل مآسي الخوف التي عانوها في الماضي البعيد والقريب. جاءوا بثقافة الغيتوهات وأسسوا كياناً عقائدياً يلفظ الآخر، وأفرغوا عقد التاريخ في جيرانهم، فاضطهدوهم ومارسوا فيهم كل ما عانوا منه. ساعدهم على ذلك سياسات عقيمة واندفاعات غير مدروسة مارسها كل حكام العرب. إن كان ما فعله هتلر بهم جريمة دفع هو وكل أوروبا ثمنها مضاعفاً، فإن ما فعلوه وما يفعلونه في فلسطين اليوم هو جريمة تضاهي، بل ربما تفوق، ما فعله هتلر بهم. وعندما يصحو ضمير العالم من سباته، عاجلاً أو آجلاً، سيدفع هؤلاء ثمن جريمتهم، وسيدفعونه مضاعفاً كما دفعه كل المجرمين الذين سبقوهم.