وتعرف العرب بفطرتها أن ليس كل من اعتلى الخيل عنترة، ولا كل جواد يزوّر إلى فارسه، ويشكو إليه بعبرة وتحمحم. فما ألفة الجواد لفارسه الأصيل، كألفة الخيل لفارس الكاوبوي، حينها يزوّر لصاحبه يشكو نكرانه بعبرة أطول من ظل فارسه، وحمحمة تلفح نارها مرارة غدر الفارس بفرسه. تعرف العرب جيداً، كيف يعتلي ظهر الجياد ذباب، إنما لا تعرف الأصدقاء حين يعتلون الخيل ذئاباً. هم يعرفون الفارس حامي قيم، لا متاجراً بها.
الرئيس الأميركي دونالد ترامب لم يتعلم إلا من كيس ماله، وذلك صندوق سياسته الرمادي. ولأنه يحب أن يكون بفضائل لنفعيته الأميركية العريقة، يحبذ الخطايا السياسية، على قياس الكاوبوي، اقتداء مخاتلاً لمقولة أبراهام لينكون (علمتني التجارب أن أولئك الأنقياء من الخطايا ليس لهم فضائل تذكر). على أنه يراه حرّر العبيد ليكونوا نخاسيه.
ولا يخجل ترامب أن يستأجر سروال جورج واشنطن ليصمم به إعلاناً للبيتزا. ويكتب على زناره التاريخي مقولة صاحبه: (هل أَدلكم على صوت أقوى من دوي المدافع؟ إنه صوت الحق يَنبعِث من قلب أُمّة متحدة تُريد أن تعيش حُرة).
ويفهم ترامب الديمقراطية استفتاء على المصالح، ولا يوجس خيفة أن يتمثل رأي مارتن لوثر كينغ (الديمقراطية ليست في استفتاء الأغلبية فلو استفتي الأميركيون لظل السود عبيداً)، لكنه لا يرى كينغ في سره إلا بائعاً متجولاً لأقراط الإفريقيات. وترامب لا يعرف للصداقة معنى إلا علكة تحرّك الأسنان، لا تسمن ولا تغني من جوع. أما الحلفاء الأوروبيون فيرى فيهم أصحاب مصعد يقلّه إلى قمة برج إيفل، ليطل على اللوفر، ويعاين نوافذه المؤدية إلى خزائن خواتم أوروبا ابنة آجينور ملك صور الفينيقي. فلا يعنيه علمانية فرنسا، ولا شمس إنكلترا التي لم تغب عن أرضها. فهو يرى حليب عنزة غاندي أثمن من مخطوطات مسرح شكسبير، وإن كانت تناديه حتى أنت يا بروتس، فرنين الذهب يصمه عن سماع رنين ذهب الكلام.
هذا هو ترامب الذي لا تجدي معه سياسة العرب القائمة على الحكم والأمثال. فقد حفظوا حكماً وفاتتهم أحكامه، فما كل من بيده سيف يداوي من يشكو الصداع، لكنهم ما إن تداهمهم غزوة أميركية كلامية حتى يشكو رأسهم الصداع.
تلك حال العرب مع ترامب كاوبوي السياسة الأميركية بلا منازع. هو أذكى من أن (يخسر لفرط ما يود أن يربح) كما تذهب فلسفة (لافونتين). وهو أجبن من أن يتمادى في التنمّر ليملك الغابة.
ترامب هو الصياد الذي يصوب بندقيته على صيد، ويداه ترتجفان. وهذا يعني أن من يفقه فكر ترامب السياسي، يعرف كيف يخيفه ولا يخاف منه. وهو الأدهى في تمثل حكمة نابليون (إن من يكسب الحرب ليس من يملك آخر رصاصة بل آخر قرش).
من غير شك أيقظت رئاسة ترامب الثانية لأميركا توحشاً إمبراطورياً في ذاته، يجعله يبلغ مدى غير مسبوق من العنجهية والغطرسة والغرور. والغرور ذاته هو الذي يجعل تنمّر فكره الجيوسياسي العربي عنكبوتياً، لكنه يربك العرب بهشاشته ووهنه.
ترامب لا يمثل نمط شخصية السياسي الأميركي التقليدي. فهو لا يشبه ستة وأربعين رئيساً سابقاً سبكوا في المصنع المزئبق للسياسة الأميركية. ترامب الذي لا يعرف برّاً حتى لأبويه، هو البار حتى الثمالة لنمط تكاملي لا انفصامي لازدواج شخصية الكاوبوي السياسي، والتاجر الإستراتيجي في الآن معاً. وهي ازدواجية متلازمة لا متناقضة. الأولى يتورم فيها رجل الكابوي بشوفينية ابن الغابة. والثانية يتوغل فيه التاجر المقاول بالجشع الجبان جبن أباطرة رأس المال التليد. بارع ترامب بتقمص نفسية رجل الكابوي العصابية النفعية التي تدفعه إلى أن يطلق رصاصه على خيله الهرمة مكافأة خائنة لخدمتها. وهي النفسية ذاتها التي تدفعه إلى أن يطلق النار على سياسته إذا ما هددت رأس ماله.
إن الفهم الإستراتيجي لشخصية ترامب المركبة من ثنائية الكاوبوي والتاجر. هو المفتاح الذهبي لفك قفل قوة غطرسته. لأن هذا النمط من الشخصية يخاف من قوته قدر خوفها من كلفة حرب الخصم.
أما الهدف من التركيز على البنية النفسية والشخصية لترامب، فمرجعه التحكّم بثقل قوته. فهو لا يستمد قوته من رؤى المؤسسات الأميركية العريقة التي تحافظ على بنية الدولة العميقة. إنما يستمد قوته من فوزه بالسلطة من خارج نمط الشخصيات الأميركية العريقة سياسياً. فهو يستند إلى نجاحه في اختراق أنماط الحكم الأميركي، والانقلاب على مؤسساتها السياسية التقليدية.
تتجلى خصوصية حكم ترامب بالفردية المتنمرة والمزاجية المفرطة. لذلك يسيّره تفكيره الذاتي الخاص المدعوم نفسياً ومادياً بنجاح انقلابه المأثور على الشخصيات الرئاسية الأميركية السابقة.
وفي العودة إلى شخصية ترامب مكمن قوته، وضعفه في الآن معاً. يكشف تركيبها عن صفرية امتلاكها الشجاعة النفسية، خشية إطلاق قوته في المعارك المكلفة، وتبديد مقدراتها الاقتصادية. فترامب ليس إلا ذلك الرجل الذي يحتضن رأسماله أكثر من احتضانه أبناءه، يلوح بالسيف فوق صندوق ماله وظهره للمبادئ.
إن إطلاق ترامب رؤى سياسية لتفكيك الرمق الأخير من قوة الجيوسياسية العربية، وإعادة تشكيلها بما يهوى تنمره السياسي. ما هي إلا رؤى تكتيكية، تجريبية لا تقوم على خطط إستراتيجية غائية. هي ثرثرة استكبار طاوسي، واستغلال جبان لضعف العرب يستجيب لرغباته الذاتية في تحقيق متعة تنمّره.
لا ينتهج ترامب سياسة إستراتيجية في دعوته لتهجير سكان غزة، قدر ما يمارس عنجهية رجل الكابوي في قوته الظاهرة، أما في عمق تفكيره فهو يقيّد هذه القوة بسياسة التاجر الجبان. إنه يختبر نجاحه في تحقيق أهدافه مستغلاً ضعف العرب، وتشتتهم. غير أنه حريص ألا يدفع كلفة اقتصادية باهظة. فهو يتبنى سياسة إطلاق بالونات اختبار، أو قنابل صوتية من غير كلفة سياسية أو اقتصادية.
إقرأ أيضاً: هل تشرب الشاي يا قاسيون؟
فهو على دراية كافية بعجز العرب عن مجابهة بالونات الاختبار، وفزعهم التاريخي من القنابل الصوتية السياسية، بسبب اتساع أزماتهم، وفقدانهم لأيّ مشروع رادع يقاوم رغباته.
وهذا الوهن العربي يثير بفداحة شهوة ترامب للتنمر، والتمادي في رؤاه، وتحويلها من قنابل صوتية إلى صواريخ عابرة للقارات، إذا ما وجد أن مشروعه يتحقق من غير كلفة ترهقه. لأن مركز ضعفه يكمن في حساب النتائج الاقتصادية. وهو لا يتورع أن يتراجع، وينقلب على سياسته من غير تردد، فهو أكثر البراغماتيين تكتيكاً في الانسحاب والتخلي عن الطموحات الخاسرة.
يرى ترامب قوة رؤاه بغياب أي مشروع عربي مناهض لأطماعه، فهو يعهد العرب يظنون أن لعبة الطميمة، هي إستراتيجيتهم في إدارة القوة المستقبلية. وتسانده شهوة إسرائيل وإيران في المزيد من اقتسام الحصص الجيوسياسية العربية الغارقة بعجزها.
وهذا الثالوث المتصارع ظاهرياً بتوسعة نفوذه في العالم العربي، متحالف إستراتيجياً في الأهداف البعيدة المدى. فالعداء الظاهري بين أفرقاء هذا الثالوث هو خصام تكتيكي.
فالسياسة الأميركية تاريخياً تدرك بعمق المشكلة العربية، وتستثمر هذه المعرفة في التمكين لرؤاها السياسية. ولاسيما الصراع العربي الإيراني، فأميركا ترامب تعي جيداً أن هزائم إيران الأخيرة في المنطقة نتيجة لسياسة إسرائيلية. لا لمشروع عربي، وهي لا تريد إلحاق الهزيمة الكاملة بإيران، لأنها العدو اللازم في جعل العرب يلهثون للتذيّل بأميركا وإسرائيل، مضطرين لتقديم أقصى التنازلات للحفاظ على أنظمتهم وحمايتها من إيران.
حقاً أصبح الوجود العربي في أحلك مرحلة تهدد مصيره وشكله وبنيته. وكأنما العرب يسيرون عميان بين أخطبوطية شبكة جبهات مناهضة له داخلية وخارجية. وهم في أحوج حال لبناء مشاريع إستراتيجية تستوعب أزماتهم الداخلية وعداواتهم الخارجية. قادرة على توحيد حيوي لقواهم، يكون كفيلاً بإلحاق خسائر اقتصادية مؤثرة لسياسة ترامب لتجعله يصوّب رصاصه إلى أحلامه الهرمة بإعادة تشكيل الوطن العربي. وهي أحلام تهرم إذا ما كان تحقيقها مكلفاً.