: آخر تحديث

سيد قطب يغيث ألكسيس كاريل بحل إسلامي!

5
6
4

السمةُ الخاصة التي اتَّسمَ بها الإسلامُ الهندي ابتداءً من القرن التاسعَ عشر والتي كنت أعنيها في خاتمة المقال السابق، هي الرفض الديني المتشدد والمتزمت للتشريعات الغربية وللتعليم الغربي، وهي مسألة سبق لي أن تناولتُها في مقال بعنوان: «حجب الإسلام الهندي الإصلاحي عن العرب».

في المقارنة التي أقامها محمد أحمد خلف الله بين تلقي سيد قطب لأفكار أبي الحسن الندوي وتلقيه لأفكار ألكسيس كاريل، قال: «كان سيد قطب يسلم كل التسليم بأفكار الندوي، ويمتد بها في الآفاق البعيدة التي لم يقصدها هذا المفكر الإسلامي، بينما هو يناقش كاريل ويختلف معه في بعض الأحيان».

هذه المقارنة التي أقامها بين الندوي وكاريل في تلقي سيد قطب لأفكارهما، لا تقوم على أي أساس. من البدهي أن يسلم سيد قطب كل التسليم بأفكار الندوي، ويختلف مع كاريل في بعض أفكاره.

ومن سياق مقارنته نفهم أن موضوع المقارنة هو تلقي سيد قطب أفكارهما حول الحضارة الغربية الحديثة.

سيد قطب رجع إلى كتاب ألكسيس كاريل «الإنسان ذلك المجهول» الذي كان ترجمه إلى العربية شفيق أسعد فريد، ونشرته مكتبة «المعارف» ببيروت عام 1953؛ رجع إليه في كتابه «الإسلام ومشكلات الحضارة» الصادر عام 1962، وعرض أفكار مؤلفه في الفصل الأول من كتابه، مستعيراً عنوان الكتاب «الإنسان ذلك المجهول».

يقول سيد قطب تحت العنوان: «هذا العنوان ليس من عندنا، إنما هو من عند عالم أوروبي – أميركي، لا يجادل علماء الحضارة الحديثة في مكانته العلمية، ولا في حداثة نظرياته – أو دراسته بتعبير أدق – ولا في جديتها. إنه عنوان كتاب مشهور للدكتور ألكسيس كاريل».

هذه الإشادة بالمؤلف وبالكتاب استعملها سيد قطب لإثبات قضية «عجز العلم وقصوره وجهله بالإنسان»، بمنهج حجاجي إسلامي مألوف ضد الغرب، مستمد من آية قرآنية، هي: «وشهد شاهد من أهلها».

وقد أعاد سيد قطب ما قاله في مفتتح الفصل الأول في فصل آخر من كتابه، هو فصل «حضارة لا تلائم الإنسان» بعبارات أخرى: «هذه المقتطفات توسعنا فيها – كما توسعنا في المقتطفات التي نقلناها عن دكتور كاريل في فصل (الإنسان ذلك المجهول) – عن عمد بوصفها شهادة من رجل أول صفاته أنه عالم دارس لموضوعه، متمكن منه. ثم هو من الناشئين في كنف هذه الحضارة التي يثور عليها هذه الثورة، ومن المؤمنين بالعلم، الذي يعلن عن عجزه وقصوره هذا الإعلان».

إنه من البدهي – كما قلت – أن يختلف سيد قطب مع بعض أفكار كاريل ومع بعض تعابيره؛ لأنه ليس مثله مسلماً إسلامياً أصولياً، إلا أنه مع اختلافه معها يلتمس العذر له لفرط إعجابه به وبكتابه. فعلى سبيل المثال، جملته: «وهبتهم الطبيعة»، قال عنها معتذراً: «على الرغم من إيمان الرجل بالله، الإيمان القائم على مشاهدته للحقيقة في المجال العلمي، فإنه تندس في تعبيره مثل هذه الجملة، بحكم الوراثات والرواسب الثقافية الغائرة...». وجملته: «قهر العالم المادي»، قال عنها معتذراً: «التعبير بكلمة (قهر) ظاهرة من ظواهر العقلية الغربية، تنشأ عن راسب من رواسب الأساطير الإغريقية والرومانية، ويغذيها منطق القوة السائدة في أوروبا الاستعمارية...».

الحل الذي رآه كاريل بأن تكون العلوم الإنسانية في علمیتها بمستوى علمية العلوم التجريبية أو التطبيقية، اعتذر له سيد قطب فيه بأنه «سجين هذه الحضارة (يقصد الحضارة الغربية الحديثة)، سجين بيئتها وتاريخها وملابسات حياتها، سجين الانطباعات والرواسب العميقة العنيفة في هذه البيئة». وأغاثه بحل آخر، فخاطبه قائلاً: «نحن – أصحاب المنهج الإسلامي للحياة – نملك للبشرية ما لا يملكه أحد آخر على ظهر هذا الكوكب. ونملك أن ننقذ دکتور کاریل نفسه من حيرته هذه، وأن نستجيب لصراخه المخلص العميق الحاد! ونحن – أصحاب المنهج الإسلامي للحياة – ندرك من دراستنا لموقف الدكتور كاريل الذي يستحق العطف والرثاء أننا – وحدنا – مكلفون أن نتقدم لحمل العبء، ولندل البشرية على طريق الخلاص، ولننشئ هذا الطريق أيضاً».

ضمير الرفع المنفصل «نحن» يعود إلى سيد قطب، تعبيراً عن إرادة التعظيم لنفسه، ولم يكن يشرك معه فيه المودودي والندوي ومحمد أسد وشقيقه محمد قطب الذين استشهد بهم في كتابه، والذين هم – كما يبطن – يعبرون عن «المنهج الإسلامي للحياة» بتمامه وكماله.

أذهب إلى أنه يعني نفسه بالضمير «نحن»؛ لأنه رأى أن ما قدمه في كتابه «الإسلام ومشكلات الحضارة» هو «دراسة» لموقف ألكسيس كاريل في كتابه «الإنسان ذلك المجهول». فكتاب سيد قطب هذا في جانب كبير منه عبارة عن إيراد مقتطفات من كتاب «الإنسان ذلك المجهول» مع تعليقات قصيرة في قسم منها شرح، وفي قسم آخر استدراك وتنقيح إسلامي لما ورد فيها.

الحل الذي أغاث سيد قطب به ألكسيس كاريل، أغاثه به على أنه من الأحياء، ولم يكن يعلم بأنه حين صدور كتابه في عام 1962، كان قد مر على وفاته ثمانية عشر عاماً!

سيد قطب كان يجهل هذه المعلومة؛ لأن شفيق أسعد فريد في تعريفه بألكسيس كاريل – الذي نقله عنه سيد قطب مختصراً في هامش الصفحة الأولى من الفصل الأول – لم يذكر أن الرجل متوفى في عام 1944. استعان سيد قطب بهذا الكتاب؛ لأنه قائم على نقد جذري للحضارة الغربية، وعلى إيمانية روحية صوفية، لكن هذا الكتاب لم يكن – كما ذهب خلف الله – هو المؤثر ثقافياً عليه في موقفه من الحضارة الغربية. فموقفه الذي لا يبقي إلا على القليل منها للانتفاع به، تبلور مع قراءته لكتاب محمد أسد «الإسلام على مفترق الطرق»، ولكتاب مولانا محمد علي «الإسلام والنظام العالمي الجديد» في المنتصف الأخير من الأربعينات الميلادية، وتأطر مع قراءته لبعض كتب المودودي، ولكتاب الندوي «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟» في أول الخمسينات الميلادية.

سيد قطب استعان بدرجة أقل بكتاب ألكسيس كاريل في كتاب آخر هو «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» الذي صدر هو الآخر عام 1962. وللحديث بقية.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد