شكّلت خطوة ظهور رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على منبر الأمم المتحدة وبيده خريطة يعلن فيها عن تحالف ونظام جديد في الشرق الأوسط في تشرين الأول (أكتوبر) المنصرم، نقطة تحوّل مفصلية واضحة، لفهم ما يمكن أن تؤول إليه الأمور في المنطقة برمّتها، حيث يبدو أنَّ أيّ تسوية مرتقبة في كلٍّ من غزّة ولبنان لن تكون خارج هذا السياق.
فتغيير ملامح الشرق الأوسط الحالي بات مرتقبًا، وذلك بما يحقق ممرًا متصلًا لما أطلق عليه (ممر داوود) ومن ثم تأمين (إسرائيل الكبرى). ولم يعد ذلك مجرد سيناريو افتراضي، بل واقع تسعى إليه إسرائيل مستفيدةً من التعقيدات والتشابكات الإقليمية والدولية الحالية، التي تعتبرها الفرصة الأكثر ملاءمة لتحقيق ذلك، سواء أتحقق ذلك عبر الحروب المدمّرة أو بالتسويات والمقايضات والمفاوضات.
فإسرائيل استغلت فرصة السابع من تشرين الأول (أكتوبر) "الذهبية" للانطلاق نحو ما تهدف إليه، واستطاعت أن تقدم تغييرًا جذريًا لناحية ما يُعرف بمعادلة توازن الكلفة لتحقيق "أمنها" وإنفاذ مآربها. فبعد أن كانت في السابق تعمد إلى حروب سريعة ومعاهدات للسلام، وتلجأ للمفاوضات لمبادلة أسراها، نجدها الآن تبدي استعدادًا لدفع أثمان "باهظة" مقابل تنفيذ ما يراه اليمين "نبوءة توراتية" عليها إتمامها تحت مسمى (شرق أوسط جديد) لا مكان فيه "للميليشيات" ولا "لأشباه الدول" حسب التوصيف الإسرائيلي.
فيما يبدو أنَّ الحرب لن تتوقف إلا بعد إنهاء كل تلك الكيانات العسكرية غير النظامية وتطويع الأنظمة الإقليمية الرسمية الأخرى بما يلائم هذا المسار، الذي يبدو أن القوى العالمية الكبرى برمتها "موافقة" عليه، مع الاختلاف على بعض الشكليات الظاهرية حول الأوضاع الإنسانية، التي لا تغير من حقيقة المسار المجمع على تنفيذه.
ولا ندري في ظل ذلك المخاض إن كانت ستسمح إسرائيل ومن ورائها الولايات المتحدة، بقيام دولة فلسطينية مستقلة. ففي وقتٍ تسعى جميع دول المنطقة (في الخطاب المعلن على الأقل) بما فيها العربية لضمان أمن إسرائيل مقابل حل الدولتين، نجد أن ذلك لم يعد واردًا في الحسابات الإسرائيلية المستقبلية، لا سيما وأنها رفضت كل العروض التي قدمت لها لترسيم حدودها، التي لم تحدد حتى الآن.
وبطبيعة الحال، وبالرغم من أنَّ لا شيئًا جوهريًا يتغير بتبدّل الرؤساء الأميركيين حيال السياسات الخارجية للولايات المتحدة والتزاماتها حيال إسرائيل، إلا أنَّ وصول الرئيس الجمهوري دونالد ترامب إلى سدة البيت الأبيض ربما يسرّع في إتمام مشروع الشرق الأوسط الجديد. فهو الذي توعد بإنهاء الحرب على الوجه الذي يرضي إسرائيل ويحقق المصالح الأميركية، وكان قد أعلن بوضوح خلال كلمته الانتخابية أن إسرائيل صغيرة جدًا، وألمح إلى ضرورة توسعة أراضيها، حيث سيتم البدء من الضفة الغربية باعتبارها أرضًا إسرائيلية (يهودا والسامرة)، وإنشاء منطقة عازلة في جنوب لبنان. كما وعد اللبنانيين في الوقت نفسه أنه سيسعى لأن يضمن لهم العيش بسلام مع جيرانهم.
إقرأ أيضاً: الأمم المترنّحة في عالم بلا مَعالم
ومن الناحية العملية، فإنَّ (ممر داوود) الذي يمرّ من الجولان وجنوب لبنان ويشق طريقه في الداخل السوري وصولًا إلى العراق سيكون تحت نفوذ وإشراف الولايات المتحدة، التي هي تحت سيطرة قواتها أصلًا.
ولعل هذا الجزء من النفوذ قد بدأ يتظهّر ويبدو واضح المسار من الناحية الجغرافية، وتسعى إسرائيل لتظهيره على الخريطة السياسية. إلا أن السؤال الأكثر أهمية وحساسية يدور حول مآلات اتفاقات (وادي عربة) و(كامب ديفيد) وانعكاسات ذلك على كلٍّ من مصر والأردن، ممن لديهم معاهدات سلام واضحة والتزامات صريحة مع إسرائيل.
فهل سيتوقف الأمر عند إحكام السيطرة على ممر داوود بالقضاء على حماس وحزب الله والحشد الشعبي والحوثي...، ومن ثم العمل على (إحلال السلام)، فتُرجئ إسرائيل إعلان إسرائيل الكبرى حتى حين، أم أنها ستكمل المسار "التوراتي" الذي سيشمل جزءًا من الأردن ومصر أيضًا، حيث تسعيان لتسوية غير معلنة، ربما يكون فيها تنازل عن بعض الأراضي بالتراضي؟
إقرأ أيضاً: الحراك المدني: كلمة العدل بوجه قانون جائر
وبالرغم من أنَّ الدول كلها، لا سيما القوى الكبرى منها، لا يهمها إلا مصالحها المادية والاقتصادية، إلا أنه لا يخفى على أحدٍ أن السياسيين، بما فيهم العلمانيون، يجيّرون الديني لما يخدم رؤاهم ومصالحهم. أما الحاخامات و"المتدينون" فيقولون بشكل واضح لا لبس فيه إنهم يريدون تحقيق الرؤية "التوراتية" للدولة اليهودية، وهي المهمة التي "أوكلها الله لشعبه المختار" لتنفيذها. وأن عملية "إبادة كل ما على الأرض من بشر ودواب وحجر وشجر" هي جزء "مبارك" من تلك العملية.
بالمقابل، فإنّ بعض الدول العربية التي ضاقت ذرعًا بفوضى الميليشيات على أراضيها ترى أن هناك فرصة مؤاتية تقدمها إسرائيل لتطهير الأراضي العربية من النفوذ الإيراني، على أمل أن يحلّ الاستقرار بعد ذلك باتفاقات عادلة.
فهل ستنفع "الحنكة" و"الحكمة" الدبلوماسية وإدارة المصالح العربية دون الانجرار إلى خانة الصدام في المدى القريب؟ أم أنّ الأمور ستنفلت وسيجد الكوكب نفسه في مربع "الحرب الدينية"؟