: آخر تحديث

‏السعودية تدفع الجنوب العالمي لقدم في النظام الدولي 

3
3
3

كان من الواضح أنَّ اللقاء الأمريكي الروسي في الرياض، وما أفرزه من نتائج سياسية واستراتيجية هامة، قد وضع المملكة العربية السعودية في صلب الاهتمامات الدولية سياسياً وأمنياً وإعلامياً.

إذ أثارت الاستضافة والمشاركة السعودية في هذا اللقاء السياسي الرفيع بين قوتين نوويتين كبريين الاسئلة عن الاسباب الدافعة لاختيار الرياض كمحطة فارقة ومؤثرة في توازنات السياسات الدولية.

‏قبل الحديث عن عوامل صعود الرياض، يمكن القول إن المملكة في دينامياتها الدبلوماسية لا تمثل نفسها فحسب، بل تمثل القوى الصاعدة في الجنوب العالمي. فالمملكة وشركاؤها في هذا الجنوب عززوا أدوارهم في السياسة الدولية عقب انفجار الحرب الأوكرانية، مستثمرين حالة فقدان الوزن في بروكسل وأوهام الديمقراطيين في واشنطن باستنزاف روسيا وتعزيز قبضتهم على أوروبا وحاجة موسكو للتعاون مع قوى الجنوب.

‏التداعيات السياسية والاقتصادية والأمنية التي أفرزتها تلك الحرب على البيئة الإقليمية والدولية أثرت في مستويات الأمن وأبعاده، لا سيما أمن الطاقة في أوروبا، وكذلك الأمن الغذائي؛ مما أثر في الاقتصاد العالمي الذي سرعان ما شهد أزمة كبيرة نتيجة لوقوع الحرب في منطقة تعد سلة الغذاء العالمي وقد افرزت هذه الحرب تكتلات امنية جديدة، وصياغات استراتيجية مستحدثة.

‏وهذا أدى إلى مرحلة تنافس دولي جديد على إمدادات الطاقة التي تعد من أهم مستويات الأمن للدول الصناعية في المرحلة الراهنة وامتداداتها المستقبلية، مما كان له دور في البنية المتكونة للنظام الدولي وتوزيع القوة والأدوار ومسار بناء التحالفات وشكل التوازنات الدولية المقبلة، نتيجة لتعدد مسارات الحرب والأطراف الفاعلة فيها.

اعتبرت الحرب الأوكرانية واحدة من الأحداث المهمة في العلاقات الدولية بالتاريخ الحديث، فقد تورطت بها قوى كبرى، ووقعت في أوروبا التي عاشت عقوداً من الاستقرار السياسي بعد الحرب العالمية الثانية.

‏وعلى الرغم من تعدد الحروب التي شهدها العالم بعد مرحلة الحرب الباردة، إلا أن الحرب الروسية الاوكرانية شكلت تحدياً جدياً لاستقرار النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، وأعطت مؤشرات لبداية تحولاته ولعل ذلك يعود لموقع أوكرانيا الذي يمثل تقاطع الحسابات الجيوسياسية لكل من الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا الاتحادية في منطقة اعتبرت جيوسياسياً هي قلب العالم حسب منظري الجيوبوليتيك الغربيين.

‏وكان استخدام القوة العسكرية الروسية ضد أوكرانيا نتيجة ضغوط متزايدة على النظام الدولي واثبات حالة الفشل التي تكتنفه، فضلاً عن بث رسائل واضحة نحو الولايات المتحدة والمنظومة الغربية لمراجعة النظام الدولي عبر التعاون الايجابي أو تقويضه عن طريق التهديد العسكري. ولذلك تبقى احتمالية تغيير النظام الدولي على ما ستقدمه روسيا لتعزيز موقفها الرافض للهيمنة والتوسع الغربيين لحلف شمال الأطلسي. اذ لم تنشئ الحرب احتمالية واحدة لمستقبل النظام الدولي بل العديد من السيناريوهات المحتملة.

‏وكانت الأزمة الأوكرانية اهم التحديات المعاصرة لكل من أمن الطاقي الروسي و الأوروبي نظراً لكون اوكرانيا دولة عبور محورية لإمدادات الطاقة الروسية نحو أوروبا، حيث 80 بالمئة من الامتدادات الروسية إلى أوروبا تمر عبر أوكرانيا.

‏وما من شك أن انعكاس الأزمة الروسية الأوكرانية كان بالسلب على المصالح الأوروبية، وخاصةً في مجال الطاقة الذي تضرّر وبشدة من تلك الأزمة نتيجةً لاعتماده بشكل كبير على النفط الروسي، وهو الأمر الذي دفع الاتحاد الاوروبي لاتخاذ عدة تدابير لمواجهة تلك الأزمة أو للحد من تداعياتها، منها التوجه لمنطقة الخليج العربي لأنه ليس بالإمكان إيجاد حل نهائي للازمة في وقت قريب.

‏منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا جرت على أراضيها عملية مراجعة لمعادلة توازن القوى التي ترسخت عقب انتهاء الحرب الباردة ومنحت هيمنة مطلقة للولايات المتحدة الأمريكية على النظام الدولي بالرغم من عناصر القوة لروسيا الاتحادية و للصين متمثلة بالقوى العسكرية السياسية والاقتصادية والتكنولوجية. وعليه يتشارك كلا من الطرفين في اعادة تشكيل نظام دولي لا تهيمن عليه الولايات المتحدة بمفردها، ويراعي تطلعهما لاداء أدوار قيادية داخله.

‏وهذا ما سوف يترك تداعيات ترتبط بالقارة الأوروبية بأكملها، بل والكتلة الغربية على امتداد مناطق نفوذها وحلفائها، بطريقة ستلقي بظلالها على النظام الدولي بأسره، إذ يبدو أن موسكو تدرك أنه بسبب الصدع في الحائط الغربي بعد توجهات السلام الأمريكية باتت اللحظة مواتية لتغيير المعادلات السياسية والأمنية والعسكرية في أوروبا . ولأن نظام القطبين في مرحلة الحرب الباردة قد تميز بالتنافس على أوروبا الشرقية وشرق آسيا، وتوقف هذا التنافس عندما زال الخطر الروسي، فإن تشكل أي نظام عالمي جديد قد يبدأ  في أوروبا الشرقية، ما يعني نهاية النظام العالمي الحالي، حيث سيهيئ هذا السيناريو ربما الفرصة للقوى العالمية لإعادة تقاسم العالم.

‏وقد أدت المتغيرات التي شهدها النظام الدولي، إلى بروز قوى جديدة على مستوى التفاعلات الإقليمية والدولية ، نظراً لما تمتلكه من مقومات القوة ، ولا سيما على مستوى التنمية الاقتصادية والنفوذ السياسي، الأمر الذي مكنها من أداء ادوار فاعلة في العلاقات الدولية. وهو ما أفرز تنامي قوة العديد من الدول في مجالات معينة في اطار مفهوم القوى الصاعدة، التي تسعى إلى تغيير ديناميات القوة في النظام الدولي من خلال تعزيز دورها في التفاعلات الإقليمية والدولية، ورغبتها في تشكيل علاقات سياسية بعيدا عن القوى المهيمنة والتحكم في الأدوار الإقليمية. وتعد السعودية والهند وجنوب أفريقيا والبرازيل من أهم القوى الصاعدة في الجنوب العالمي الراغبة في التأثير بالنظام الدولي لما تمتلكه من مقومات القوة ولا سيما السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية. فضلا عن تاثيرها على مستوى المنظمات والمؤسسات الاقتصادية كمنظمة التجارة الدولية وصندوق النقد الدولي والمنظمات الاقليمية. والتي مكنتها من القيام بأدوار إقليمية ودولية مؤثرة تتناسب وهذه القدرات، وبما جعلها دول ذات مكانة سياسية واقتصادية وعسكرية مهمة على الساحة الدولية.

‏ان السعودية وشركائها كانوا في قلب معادلة الطاقة الجديدة بعد الحرب الاوكرانية ، وحاولوا تخفيف الازمة الاوربية في الطاقة. في الوقت نفسه تعاونوا مع موسكو لاستقرار الأسواق العالمية الشئ الذي جعل الرياض شريكاً ذا مصداقية مع موسكو وكذا مع العواصم الاوربية.

‏وكانت السعودية ومعها الدول النفطية رفضت العقوبات أحادية الطابع على روسيا . واتخذت سياسات مستقلة في الدبلوماسية والطاقة ، فرفضت محاولة الاحتواء الغربية لمحاصرة موسكو ، متمسكة بالتعاون مع روسيا وحماية تحالف (اوبك بلس) لتعزيز استقرار أسواق النفط .

‏بالمقابل فان الرئيس الأمريكي جو بايدن الذي كان قد توعد بعزل الرياض دولياً أضطر للقدوم إلى جدة (يونيو 2022) متودداً لرفع الانتاج وخفض الاسعار ، وهو الطلب الذي صٌمت أذان ولي العهد السعودي عن الاصغاء له. فتوجه تالياً لرفع العقوبات عن النفط الفنزويلي و غض الطرف عن صادرات النفط الإيرانية والروسية كلاهما رغم خضوعهما للعقوبات.

‏هذه السياسات المستقلة للسعودية وشركائها في اوبك بلس حافظت على مواردها وعززت إيرادتها ومكنت قوتها الاقتصادية من زيادة التأثير السياسي.

‏دبلوماسياً قامت الرياض بادوار الوساطة لتبادل الاسرى بين موسكو وكل من كييف ولندن و واشنطن. كما عززت دبلوماسيتها باستضافة مؤتمر السلام الأوكراني الذي عقد في جدة عام 2022 بحضور مستشاري الامن الوطني في نحو 40 دولة، واستضافت الرئيسين الروسي بوتين والأوكراني زيلنسكي كل على حدة. ومولت برنامج مساعدات لضحايا الحرب الأوكرانيين. ورغم ذلك فان مزاعم الرئيس بايدن المتكررة بأن السعودية تمول آلة الحرب الروسية لم تزعزع ثقة ولي العهد السعودي بمواقفه.

‏هذا التوازن في المواقف السياسية المدعومة بسياسات مستقلة معززة بالوساطة ودور رسول السلام عززت من قوة المملكة دبلوماسياً و سياسياً واقتصادياً و حافظت على مصالحها إقليمياً ودولياً.

‏في آذار (مارس) 2023 فوجئ العالم - وواشنطن بالذات - بدخول الصين وسيطاً في الأزمة الدبلوماسية بين الرياض وطهران . وتمكنها من تحقيق مصالحة سياسية تاريخية بين الخصمين الإقليميين، الأمر الذي حيد التوترات والتهديدات الإيرانية في منطقة الخليج ، التي ربما كانت واشنطن قد استثمرتها سابقاً. وقد هيأ ذلك لبكين موضع قدم في استراتيجيات معادلات القوة في أمن الخليج. وهو ما دق جرس الإنذار في واشنطن التي حثت الخطى نحو محاولة التفاهم مع الرياض حول معاهدة امن مشتركة أمريكية / سعودية.

‏هذا التوازن في الشركاء الدوليين حصن الدور السعودي من التلاعب في مكانة المملكة وامنها القومي، إن من خلال تغيير الديناميات الأمريكية مع إيران، أو سحب منظومات باتريوت للدفاع الجوي من منطقة الخليج.

‏وعندما تتحول الرياض اليوم لمستضيف وشريك في سيناريوهات توزيع القوة الجديدة بين واشنطن وموسكو فهي تمثل لمحة ضوء صغيرة عن دور الجنوب العالمي مستقبلاً في النظام الدولي الجديد.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في كتَّاب إيلاف