الغربة حياة مع الذات، نبحر إلى حيث يعيش الآخرون بحب وتفان وألق. مع الآخر وإلى جانبه نسعد بمؤثراتها، ونتعلم كثيراً من العبر، ونحاول تجاوز العثرات وما أكثرها، وإن شابها بعض المنغصات، إلّا أنّها يظل فيها الكثير من تصوير لواقع جميل طالما سمعنا به وعايشناه، وها نحن نقف على كل جزء نعاني منه، وإن كان صغيراً.
في الغربة التي يكون فيها الأهل قريبين إلى جانب ابنهم المغترب، لا أظن أنها تستدعي منا أن نقف منها موقف المعادي أو الضدّ.. في حال أنها كانت بعيداً عن الماديات وملحقاتها.
في الغربة نتعلم كثيراً من الدروس، ونتجاوز ما كنا نجهله، ولم نتعلمه في الحياة المدرسية وأفقها المحدود!
في الغربة تتكشف لك أشياء كثيرة، سواء لجهة الأصدقاء أو الأقارب الذين يحاولون التواصل معك وإلصاق التهم بك، ويتخلون عنك لمجرد أنك لم تعرهم اهتماماً، أو لم يكن بالإمكان أن تمد يد المساعدة، وهم في قرارة أنفسهم يظنون أنك تتمتع بالاكتفاء المادي، في وقت أن أغلب المغتربين من المهجّرين لا يملكون لقمة عيشهم، ويعيشون في ظل المساعدات التي تتكرم عليهم الحكومات بها لمن لجأوا إليها، وهذا حالهم.
في الغربة يسكنك كثير من الأشياء التي تجعلك منفرداً بنفسك. العزلة ديدنك الوحيد، وهي الحل الأمثل للقضاء على هلوساتك وأحلامك، وآمالك في حال وجدت.
في الغربة، تتعرف إلى وجوه جديدة، لم يكن بد من الالتصاق بها ومجاملتها، وإن لم تكن مقتنعاً بما تقوم به وما يقدمون لك من خدمات، أو رؤية حيال تطلعاتك.
في الغربة تكتنفك أحلام كثيرة، تحاول تجسيدها إلى واقع لكسر حاجز الصمت الذي يصيبك ويجعل من أيامك التي تعيشها مجردة من أي روح، وما عليك سوى الانصياع لها برغم عدم قناعتك بها.
وفي بلاد غريبة عنك طالما تفكر في حساب الربح والخسارة، وما ينطلي على كثيرين من أوجاع، وما يصيبهم من لزوميات الحياة، ويظل هاجسك هو الترقب والخوف من ماضي ما زال يكرس فينا، نحن المغتربين عن الوطن، صوراً لزمن كان هو الأجمل.
إقرأ أيضاً: إلى صديقي الغائب
ما بين هذا وذاك لنكن أكثر تألقاً، ولنتعلم من مدرسة الحياة الصاخبة، وأفقها الواسع في ظل صداقات حيّة مع أصدقاء مخلصين، أوفياء.. إن وجدوا، وبغيابهم عنا، لمجرد وعكة صحية، أو حالة مرضية ما، فهذا لا يعني أن نلغي وجودهم من حياتنا، بل علينا أن نكون إلى جانبهم في كل وقت، وفي كل حين.
في ظل أمثال هؤلاء المخلصين، الودودين، تكبر عزيمتنا، وتزداد ألقاً، حينها نعي ماذا تعني الغربة.
في ظل هؤلاء نتجاوز الآلام، بل نفرح أشدَّ الفرح، ونسعد أيّما سعادة بحضورهم بيننا. هؤلاء الإخوة يفيضون حبّاً وأدباً، ومنهم من يندر اللقاء بهم، والتعرف عليهم، ومنهم الآخر ما زالوا بحاجة إلى غربلة في حياة يلفّها كثير من الغموض والمواقف، ووجودهم في حياتنا ينعش ما سبق أن جهلناه، وبحضور النبلاء منهم نرتقي ونتعلم ونتجاوز آلام الغربة وتساؤلاتها وماذا تعني.
إقرأ أيضاً: عن معاناة المواطن وقهره في سوريا
تلك الغربة التي لم نحسّ بها بالمطلق، بل إنها أتعبتنا في وطن الولادة. الوطن الذي عشنا وقضينا فيه سنوات لا يستهان بها من مرحلة الشباب!
في الغربة، يظن البعض أنها تطمس هويتنا، أقول: إنها مجرد تهيؤات لا أساس لها من الصحّة. ما تعلمناه في بلاد الاغتراب كثيراً. إنه يتجاوز آفاقاً كثيرة، لو أتيح لنا الوقت لدراستها وتعلمها من جديد لما استطعنا تحقيق جزء بسيط منها.
الغربة مدرسة، نتعلم منها، ونحذو حذو من سبقونا في الإبحار، وما علينا سوى التعلم، والتطلع إلى كل ما هو جديد، ويظل عنوانها الأبرز الالتزام بالصمت لتحقيق النجاح والتألق والإبداع.