انطلاقاً من إيماني أن للموت هيبة ووقارا، أميل إلى الإعتقاد أن ذلك الوقار قد خَفُتَ وكذلك الهيبة، لأن حفل تشييع الأمينين العامَّين الراحلَيْن ل "حزب الله" نصر الله وصفيّ الدين قد وُظِّفَ لإرسال رسائل سياسيَّة من طهران إلى واشنطن (الشيطان الأكبر حسب التوصيف الإيراني) وذلك من خلال المفاوضات السريَّة التي تجري بين الطّرفين. والدليل على ذلك تصريح وزير الخارجية الإيراني عباس عرقجي بُعَيْد وصوله إلى بيروت الأحد 23 شباط للمشاركة في التشييع قوله: "تشييع السيّدين حسن نصر الله وهاشم صفي الدين سيثبت أن المقاومة حيّة وستحقّق النصر الإلهي"، ("النهار" 24-2-2025). ولقد أكّد الشيخ نعيم قاسم ما سبق قائلاً أن المقاومة باقية وقوية ومستمرّة، وردّاً على ذلك يسأل أهلنا وأحبّاؤنا في الجنوب والذين أضحت بيوتهم دماراً: إذا كان النصر الإلهي أضحى قاب قوسين وأن المقاومة باقية وقوية فكيف ستصل المساعدات لإعمار منازلنا وبيوتنا؟! كيف ومن أين سيبزغ الأمل بالتعويضات؟! تداول الناس عبر وسائل التواصل الإجتماعي شريطاً لسيّدة جنوبية تقف أمام ما تبقّى من منزلها وتبكي قائلةً: "شو استفدنا من حرب الإسناد لغزّة؟! عمّرت بيتي بعرق جبيني انا وزوجي، أخ على الوجع اللّي عم حسّ فيه!". سمعت الشريط فدَمِع قلبي قبل عَيْنَيّ! والمفارقة أن الحرب الروسية الأوكرانية والتي أودت بحياة مئات الآلاف من الجنود والناس من الطرفين وكبّدت أوروبا ما يقارب ال 140 مليار دولار كمساعدات إلى أوكرانيا سوف يُسدَل السِّتار عليها... في وقت لا يزال عرقجي وقاسم يتحدّثان عن النصر الإلهي!!
وفي حين أجرى الجيش الإسرائيلي تحقيقاً لتبيُّن أسباب الإخفاق الذي حصل في 7 تشرين الأول وأدّى إلى هجوم حماس، بموازاة ذلك لم يُقدِم "حزب الله" على أية عملية نقد ذاتي فيما يتعلق بحرب الإسناد الذي شنّها في 8 أوكتوبر.
وبحسب ما نشرته معظم وكالات الإعلام وخاصة الصحف الإسرائيلية فإن طائرات العدو الإسرائيلي قد رمت بقنابل وزن كل واحدة منها 80 طنّاً على المبنيَين الذين كان يشغلهما الراحلين ممّا تسبّب بأطنان من الرُّكام، فالسؤال هو كيف تمكَّن المسعفون من إزالة كل هذا الركام واسترجاع جثث نصر الله وصفي الدين؟ وكانت صحيفة "وول ستريت جورنال" قد ذكرت أن "حزب الله" استغلَّ جنازة نصر الله لإظهار أنه ما زال "حيّاً". علماً أنه كان من الأفضل للحزب كي يثبت قوّته وحيويَّته أن لا يستغلّ التشييع بل انتظار الانتخابات النيابيّة المقبلة (2026) بعد اقرار قانون انتخاب جديد يلغي قانون المسخ الحالي ويعتمد "الميغا ستور" للتصويت ليتأكد عمّا إذا كان سيحتفظ بعدد المقاعد نفسها الذي يشغلها حاليّاً! وحسناً فعل الرئيس عون حين أوضح لرئيس مجلس الشورى الإسلامي الإيراني محمد باقر قاليباف بحضور وزير الخارجية الإيراني عباس عرقجي أثناء استقباله له بأن لبنان أنهكته صراعات الآخرين وأن لبنان دفع ثمناً كبيراً دفاعاً عن القضية الفلسطينية مضيفاً أنه من الضروري وقف التدخّل بشؤون الدول الأخرى مستشهداً بالمادة التاسعة من الدستور الإيراني. وشتَّان ما حدث في المدينة الرياضيّة عام 2023 وما حدث عام 2003 حين ألقى الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي أثناء زيارته إلى لبنان خطاباً جاء فيه: "لبنان يمثل لوحة فنية رائعة تبلور صورة متألّقة عن الدين والثقافة والفن والسياسة. هو جوهرة تشعّ النور في عتمة الليل فيُؤتي شعاع نورها عيون الظلام. إن دعمنا هو دعم اللبنانيين ككل وليس دعماً لمذهب دون مذهب. وأبناء هذا البلد لمسوا أكثر، مدى الخسائر والأضرار الناتجة عن آفاق الحرب والنزعة الحربية" فهل من يعتبر؟!.
أكتفي بالتعليق على ما سبق فيما خص التشييع وما رافقه من تداعيات فلقد كُتِبَ الكثير حوله لأُشير بأنَّه بعد تفكيك القدرات العسكرية ل "حزب الله" (لا يزال العدو الإسرائيلي لحينه يستهدف عبرَ مسيّراته عناصر عسكريّة للحزب)... والرعاية العربية والدوليّة للبنان فبالإمكان القول أن صفحة "سياسيّة" جديدة قد فُتِحَت، وأن الأوان قد آنَ للعهد الجديد وقد نالت حكومة الرئيس سلام الثّقة بأن ينصبّ الإهتمام اليوم قبل الغد بمعالجة الأوضاع المحليّة المؤسِفَة والموجعة والتي سادت على كافة الصُّعد في عهد ميشال عون بعيداً عن الضغوط التي كان "حزب الله" يمارسها. إن مسألة سلاح "حزب الله" ليست مسألة أبديَّة وأن تحكُّمه بمسار الأمورالداخلية في طور التلاشي إن لم يكن قد تلاشَى لذلك فإنه لا مفرّ بأن تكون القضايا الداخلية لها الأوليَّة في مسار العهد الجديد بقيادة الرئيسين عون وسلام! وللتذكير فالحزب نفسه أحبط انتفاضة 17 تشرين الأول 2019، إضافة إلى ممارسات أخرى ومنها تهريب المحروقات إلى سوريا.
ووفقاً لماثيو ليفيت مؤلف كتاب (البصمة العالمية لحزب الله اللبناني) فإن "حزب الله" تمكّن من جني قدر هائل من المال من خلال الرعاية الصحية والتعليم وغيرها من قطاعات الخدمات اللبنانية. ووفقًا لورقة بحثية صادرة عن تشاتام هاوس عام 2021، يستفيد "حزب الله" من التشريعات المالية والعقود العامة المتساهلة في لبنان، ويستخدم شركات خاصة مرتبطة به للمزايدة على العقود العامة والفوز بها. وأضاف ليفيت أن "حزب الله" يدرّ حوالي 300 مليون دولار شهريّاً من خلال تهريب وقود الديزل عبر الحدود مع سوريا.
ذلك قبل الإطاحة بالرئيس السوي السابق بشار الأسد من السلطة في كانون الأول 2024. سُرِقَت المليارات، دُمِّرت ثورة لبنان والبلاد، ومع الأسف اللصوص محميّون يأمرون وينهون. أضحى لبنان ككهف وما لص من اللصوص إلا اعتبره كنزاً مشاعاً. المطلوب وباختصار شديد زعزعة دولة الفساد العميقة، والتي أنشأتها المنظومة الحاكمة ومن ضمنها "حزب الله" حين كان في ذروة قوّته وغطرسته. (هل من يذكر تصريح وزير الثقافة السابق وسام مُرتضى قوله في مجلس الوزراء ردّا على الاتهامات التي وجّهت إلى وزير المال السابق يوسف علي خليل: "أنا ويوسف خليل لح نروح بكرة نمشي بعين المريسة وخلّي ابن ايّ مرا يسترجي يوقّفنا"!). كنّا لغاية تسلّم الرئيس جوزف عون في ظل ما يسمى بحكم اللّصوص "kelptocracy" وآن الأوان على إزالتها! في تصريح سابق للرئيس ميقاتي أن 20 مليار دولار من احتياطي المصرف المركزي ذهبت هدراً بحجّة دعم المحروقات وسلعِ مختلفة والسؤال هو كيف أجاز ميقاتي وهو رئيس الوزراء بذلك؟! واللصوصية هي الشكل الأكثر فداحةً من الفساد والتي استشرت طيلة السنوات الماضية. تم مؤخّراً التداول عبر وسائل التواصل الإجتماعي مقال لصحافي سويسري يسرد فيه بالتفصيل اسماء مجموعة من المسؤولين وزراء وغير وزراء بجانب أرقام ثرواتهم والتي تم تحويلها إلى الخارج. المطلوب من العهد باختصار زلزلة دولة اللصوص العميقة التي عانى منها كل الشرفاء ونتج عنها خسائر جسيمة طالت كل اللبنانيين بلا استثناء. في كتابه "لصوص الأموال والنصوص في التراث العربي الإسلامي" (دار مدارك للنشر، أيار، 2021) يذكر المؤرّخ العراقي رشيد الخيون أن اللصوصيّة تعدّ أقدم مهنة في التاريخ... أمتهنها أصحاب الحيلة والمراوغة. يجتمع اللصوص ويكونون ظهيراً لحماية بعضهم بعضاً وقد يشكّلون ما يشبه النقابة، لهم كبير يدبّر أمورهم ويبقى مُطاعاً آمراً ناهياً على مجموعته حتّى وإن كان داخل السجن. وما يثير العجب والحسرة حين اتّهم الرئيس السابق ميشال عون وزير المالية آنذاك علي حسن خليل في حكومة حسان دياب بقبض عمولات لتحرير دفعات مستحقّة للمقاولين فردَّ الخليل متّهماً عون بتلقّي حقائب المال في القصر الجمهوري. والمؤسف أن أحداً لم يحرّك ساكناً لا في اتهامات عون ولا في اتّهامات الخليل. المطلوب وبدون أي تأخير اعتماد مبدأ المحاسبة وأخذ قرار بتكليف شركة أو شركات متخصّصة للقيام بالتدقيق بحسابات أكثر من وزارة وفي الصدارة وزارة الطاقة، المواصلات، الماليّة، الداخليّة، مجلس الجنوب وأيضاً المصرف المركزي؛ تحديد الفاسدين وإحالتهم إلى القضاء ومن ثَمّ استرجاع كل ما نُهِب من سمسرات وفساد وإجراء عمليّة تطهير واسترجاع الأموال المنهوبة. بعد إسقاط حكم اللصوص الذي تحكَّم برقاب اللبنانيين ونهَبَ ما نهَب... ساعتئذٍ لا غرابة أن نسمع مواطناً لبنانيّاً يردّد في أحد شوارع بيروت: "هَرِمنا... من أجل تلك اللحظة التاريخيّة!" وهو القول الذي ردّده مواطن تونسي بعد سقوط الرئيس التونسي زين العابدين عام 2011!
في عهد الرئيس عون هل نسمع: هَرِمنا.... هَرِمنا من أجل تلك اللحظة التاريخيَّة؟!
مواضيع ذات صلة