حين يُذكر التاريخ، فإنه يذكر الأحداث الكبرى لا بالأرقام فقط، بل بوقعها على الشعوب ومآلاتها. وحين مات حافظ الأسد عام 2000، كان مشهده الأخير يحمل دلالات كثيرة، تنبئ بما سيحدث لاحقاً في سوريا التي حكمها لعقود بقبضة من حديد. قرار نقل جثمانه إلى القرداحة لم يكن محض مصادفة، بل خطوة مدروسة لتجنب أي احتمال أن تصبح عظامه هدفاً للغضب الشعبي، أو أداة يُنتقم بها من إرثه الاستبدادي.
القائد، مهما كان متسلطاً، عليه أن يُدرك أن لحظة السقوط قد تأتي. حافظ الأسد، رغم دهائه السياسي، لم يشهد تلك اللحظة بنفسه، لكنه ورّثها لابنه بشار الذي سار على نهج الكراهية، واضعاً بلاده على مسار كارثي، حتى صارت سوريا أشبه بمزرعة شخصية تُحكم بالحديد والنار.
بين الماضي والحاضر: خطأ التوريث
عندما قرر الأوصياء على إرث الدكتاتورية بعد وفاة حافظ الأسد أن يُورّثوا الحكم لابنه، لجؤوا إلى مجلس الشعب السوري ليكون غطاءً قانونياً للخرق الواضح للدستور، ولا يزال مشهد بعض هؤلاء أمام عيني وهم ضمن لجنة "برلمانية" متخصصة يقودون الدوس على القانون، بأمر من أسرته وحاشيته، فتم تعديل الدستور خلال دقائق معدودة، ليصبح بشار مؤهلاً دستورياً لتولي الحكم خليفة لأبيه، في خرق للقانون الذي لم يكن يسمح له برئاسة البلد دون سنّ محددة، أي رغم عدم توافر الشروط القانونية المطلوبة، إضافة إلى عدم توافر الإمكانات والخبرات. ذلك الإجراء لم يكن مجرد تلاعب قانوني، بل كان تكريساً لثقافة الاستبداد والكراهية التي استمرت مع بشار الأسد.
بشار، الذي ورث السلطة دون شرعية شعبية، لم يبذل جهداً في إصلاح ما أفسده والده، بل زاد الطين بلة. وعوضاً عن أن يلتفت لمشاريع التنمية والإصلاح، أغرق البلاد في صراعات داخلية، وساهم في تمزيق النسيج الوطني. كانت تلك السياسات بمثابة الزيت الذي صُبّ على نار مشتعلة أصلاً.
القبر كرمز لنهاية الطغاة
في التاريخ، كثيراً ما يرتبط قبر الطاغية بمصير إرثه. فالضريح، الذي يُفترض أن يكون رمزاً للهيبة والاحترام، قد يتحول إلى موضع للسخط والانتقام إذا لم يكن القائد محبوباً من شعبه. حافظ الأسد، الذي اختار القرداحة ملاذاً لجثمانه، كان مدركاً أنَّ دمشق، بكل رموزها التاريخية، قد لا تكون آمنة لجثمانه إذا انقلب عليه الزمن.
لكنَّ الدروس المستفادة من الماضي لم تكن كافية لبشار الأسد. فقد مضى على خطى والده، غير مدرك أن الحكم ليس امتيازاً أبدياً، بل مسؤولية تجاه شعب يستحق الحرية والكرامة. تلك الكراهية التي زرعها النظام في نفوس السوريين تحولت إلى إعصار دمر كل ما تبقى من سوريا.
سقوط الهيبة الوهمية
الطاغية، مهما بالغ في إحكام قبضته، لن يستطيع الهروب من حقيقة أنَّ السلطة لا تدوم. سقوط هيبة الطغاة لا يبدأ في يوم السقوط الأخير، بل يتراكم مع كل قرار خاطئ، وكل ظلم يُمارس على الشعب. وحين يدوس الغاضبون على قبر الطاغية - رغم اعتباري الأمر مشيناً-، فإنهم لا يدوسون عظامه فقط، بل على كل معاني الظلم والاستبداد التي جسدها.
بشار الأسد، الذي يظن أن سوريا مُلكٌ خاص، ينسى أنَّ التاريخ لا يرحم، وأنَّ الشعب، مهما صبر، لن يغفر لمن أهدر كرامته ودمر بلاده. فما يُبنى على القهر والاستبداد مصيره الانهيار.
الرسالة الأهم: لا تكن دكتاتوراً
أي قائد يرغب في ترك إرثٍ خالد، عليه أن يتعلم من أخطاء من سبقوه. الطاغية الذي يعيش حياته مغلقاً أذنيه عن مطالب شعبه، يعيش في عزلة زائفة، قد تُدمَّر في لحظة واحدة. أما القائد الذي يحكم بالعدل، ويضع مصالح أمته فوق مصالحه الشخصية، فإنه يُخلد في ذاكرة شعبه كرمزٍ للنزاهة والحكمة.
الضريح، في نهاية المطاف، ليس مجرد مكان لدفن الجسد، بل عنوان رمزي لإرث صاحبه. وحين يتحول قبر الطاغية إلى موضع للسخط، فإنه يُعلن نهاية حقبة من الظلم، وبداية حقبة جديدة، قد تكون أكثر إشراقاً.
أجل. على القائد أن يتذكر أن الحكم مسؤولية، لا امتياز. ومن لا يحترم شعبه في حياته، لن يحظى باحترامهم حتى بعد مماته؟!