جمع فيلم "الفتوة" (1957) من إخراج صلاح أبو سيف بين نجيب محفوظ مشاركاً في كتابة السيناريو وفريد شوقي وزكي رستم وتحية كاريوكا نجوماً. يحكي الفيلم قصة هريدي (فريد شوقي) العامل البسيط القادم من قريته إلى القاهرة لكي يعمل، وقد وفق في العثور على عمل في سوق الخضار والفاكهة في روض الفرج في هذا الوقت. ومن مشاهد الكوميديا السوداء في الفيلم أنَّ أصدقاء هريدي نصحوه أن يضع ما يكسبه من فلوس في صندوق توفير البريد، وكان من السذاجة بأنه كان يضع فلوسه في صندوق البريد أمام مكتب البريد، وهو نفس الصندوق الذي نلقي فيه الخطابات! واستمر على هذا الحال أشهراً عدَّة، ثم احتاج بعض الفلوس، فذهب إلى مكتب البريد وحاول أن يفتح صندوق البريد الأحمر لكي يأخذ فلوسه، ولكنه فشل، وراح يصرخ: "فلوسي يا حرامية"، وبالطبع راحت عليه الفلوس.
وبمناسبة صندوق البريد والفلوس، فعندما كنت في المرحلة الثانوية في دراستي كان حلم حياتي أن يكون لدي مبلغ ألف جنيه أضعها في دفتر توفير البريد (وليس في الصندوق الأحمر مثل هريدي)، والحمد لله فقد تفوقت على نفسي وأصبح لدي أكثر من ألف جنيه بكثير.
ولما حققت أملي (الألف جنيه) منذ سنوات طويلة أخذت أسأل نفسي عن أهمية الفلوس؟ واكتشفت أنَّ كلمة الشخص "الغني" في اللغة العربية لا تعني بالضرورة أن يكون الشخص "الغني" صاحب أموال كثيرة، ولكن يكفيه أن يكون في "غنى" عن الناس. لذا نجد الكثير من الأغنياء تعساء لأنهم يريدون المزيد ولم يصلوا بعد إلى مرحلة الرضى والقناعة. وفي هذا المجال أذكر مقالاً رائعاً قرأته للكاتب الأمريكي الساخر الراحل آرت بوكوالد، كتبه بعد إعلان مجلة (فوربس) عن تصنيف الأثرياء في العالم، وفيه استعرض شعور ثاني أغنى رجل في العالم، وهو بالطبع بليونير، ويستطيع أن يشتريني ويشتري معظم السادة القراء! وأخذ يشرح في مقاله كيف أن هذا البليونير كان تعيساً، لأنه لم يحقق مركز أغنى رجل في العالم، وأخذ يؤنب نفسه ويقول إنه لو قام بشراء أسهم في شركة Apple بدلاً من GM، لكان أغنى رجل في العالم، ولم يسلم بالطبع من لسان زوجته التي أخذت تؤنبه على تقاعسه في أن يصبح أغنى رجل في العالم، وأنه لو ركز في أعماله أكثر بدلاً من مطاردة السكرتيرات الفاتنات لحقق المركز الأول.
إقرأ أيضاً: أصبحت مدمناً على مشاهدة الكرة الإنجليزية
كثير من الفقراء مقتنعون بما لديهم: صحة معقولة، سقف فوق رؤوسهم يحميهم، أكل يسد الرمق، عمل يرتزقون منه وأيضاً أسرة سليمة وأصدقاء يحبون، وأنا أعتبرهم أغنياء بما لديهم. وعلى ذكر الفقراء كانت لدينا خالة (شقيقة أمي رحمها الله) تسكن في بيت من الطين في قريتنا في دلتا النيل، وكانت في غاية الفقر وزوجها عامل بسيط في مدرسة القرية ولم يكن لديهما أي أولاد، رغم أن أهلها أسموها عند الولادة (أم محمد)، ولم يكن لها من الأمومة سوى الاسم! ولما مات زوجها جاءت إلى القاهرة لكي تعيش معنا، لأنه لم يكن لديها دخل تعيش منه. وبعد حضورها وجدنا أن من حقها أن تحصل على معاش من الحكومة يعطى للفقراء وكبار السن من الذين لا دخل لهم، وكان المعاش في ذاك الوقت عشرة جنيهات فقط لا غير (وكان يسمى معاش السادات لأنه هو من أمر به)، ومرة سمعت خالتي في التلفزيون أن بعض الناس يتقاضون في هذا الوقت ألف جنيه شهرياً، وجاءت تسألني ببراءة شديدة: "ألا يا سامي الألف جنيه تساوي كم عشرة جنيه"، لأنَّ العشرة جنيهات بالنسبة لها كانت أقصى ما تطمح إليه، وأشفقت عليها من معرفة الإجابة وقلت لها: "الألف جنيه يا خالتي فيها كتير عشرة جنيه"، فردت: "أيوة يعني قل لي فيها كم عشرة جنيه؟"، فقلت لها وأمري لله: "فيها يا خالتي مية عشرة جنيه".. وكان ردها أبلغ رد وقالت: "يا لهوي"! ورغم ذلك فقد كانت خالتي أم محمد قنوعة جداً بالعشرة جنيهات شهرياً، بل وكانت أحياناً تتصدق منها! وكان أهم شيء في حياتها المحبة، سواء محبتها لنا أو محبتنا لها. وقد تعلمت منها الكثير، وكتبت مقالاً منذ سنوات عديدة في إيلاف عنوانه "دروس مستفادة من خالتي أم محمد" وأعتقد أن صديقتي وقارئتي المفضلة (سوسن) تذكر هذا المقال وسوف تذكرني متى كتبته!
ولاحظت أنَّ هناك علاقة وثيقة بين بعض الفتيات والسيدات اللاتي يعتبرن غاية في الجمال والروعة الجسدية، وبين بعض الناس الشديدي الثراء. الفتاة الجميلة جداً تكون في الغالب مدللة جداً، سواء في البيت أو خارج البيت، والكل يحاول التقرب منها ويحقق لها كل مطالبها، حتى لو كانت غاية في التفاهة، والرجل شديد الثراء يحاول الكل التقرب منه وينفذ كل أوامره (أحلامك أوامر يا بيه). الفتاة الشديدة الجمال لديها شك في معظم الرجال، لأنها تعتقد أن هدفهم الأول والأخير هو اصطحابها إلى السرير! والرجل الشديد الثراء أيضاً يكون لديه شك في معظم الناس لأنه يعتقد أن كل الناس يريدون أمواله فقط.
إقرأ أيضاً: اتفضل اقعد يا حاج!
ودعوني أشرح لكم كيف أصبحت أغنى رجل في العالم:
منذ سنوات عدَّة، كان مؤسس شركة أمازون (جيف بيزوس) أغنى رجل في العالم، ووقتها قلت لزوجتي: "إنني أسعد وأغنى من جيف بيزوس"، فضحكت وقالت لي: "لا يا شيخ"، وقلت لها: "بجد كل ليلة أذهب وأنام وأنا مرتاح البال، ولا أشيل هم مئات الألاف من العاملين لدي وكيف أدفع مرتباتهم الشهرية، وكيف أهرب من القضايا التي ترفعها ضدي الشركات المنافسة، وأقوم بتعيين جيش من المحامين لكي يدافع عني، ولن أدفع 38 بليون دولار لزوجتي تعويضاً لها عن الطلاق، لأني صاحبت فتاة أصغر منها بكثير". وبالطبع لم تقتنع زوجتي، وقالت لي: "أنا ما عنديش مانع تتعرف على بنت صغيرة بشرط تعطيني مية ألف دولار بس!".