: آخر تحديث

كلمة جارحة... قد تحفر قبراً

9
17
9

محمد ناصر العطوان

أحياناً يقف المرء على قلبه لا على قدميه... في صباح يومٍ من أيام خريف 1945، وُلد صابر السيد عبود أحمد الزيتاني، في قرية صغيرة من قرى الإسكندرية، لأسرة فقيرة تعيش على صيد السمك، وطوال حياته حصل على البكالوريوس وتزوج من المرأة التي يحبها وثلاث علاوات ونجا من الموت سبع مرات... لقد كان رجلاً عادياً جداً.

في عام 1957، وفي سن الثانية عشرة، بينما كان صابر يساعد والده في إصلاح شباك الصيد، سقط فجأة في مياه البحر المتوسط الباردة... ورغم محاولات الإنقاذ، ظلَّ غارقاً تحت الأمواج لمدة عشر دقائق كاملة، حتى انتشله صيادٌ عابر بخطافٍ معدني، نجا بمعجزة، لكن البرد ترك ندوباً في رئتيه إلى الأبد.

في عام 1963، وفي طريق عودته من المدرسة الثانوية، اصطدمت دراجته الهوائية بشاحنة نقل ثقيل والتي داست عجلاتها الدراجة حتى هرستها، ومرت فوق جسده الملقى بين عجلاتها، ليخرج صابر من بين الحطام بذراع مكسور وندبة على جبينه.

أما في عام 1970، فقد ضربته صاعقة في كتفه اليسرى وهو يقوم بضبط موجة التلفزيون من على سطح بيتهم في ليلة شتوية.

في 1973م عندما شارك صابر في حرب أكتوبر ضمن فرقة المدرعة الاستطلاعية، وفي رحلة روتينية للاستكشاف عند خطوط العدو، تعرّضت فرقته لإطلاق نار عنيف... سقطت الفرقة، لكن صابر نجا، وجده فريق الإنقاذ بعد يومين، مغطى بالرمال والدم، لكن قلبه مازال ينبض.

في عام 1991م وأثناء زيارة له إلى اليابان، تعرّض لزلزال مدمّر دمر المبنى الذي كان فيه. دفن تحت الأنقاض لأربعة أيام، يشرب مياهاً تسربت من أنابيب مكسورة، حتى أنقذه عامل إنقاذ ياباني كان يصرخ: «هناك أحدٌ حيّ»!.

في عام 1994م تعرّض لصاعقة إخرى ضربت الخاتم المعدني في اصبعه الأيمن، مما اضطر الأطباء إلى بتره... وفي 2020 كان من القلائل الذين نجوا من فيروس كورونا رغم إصابته به ثلاث مرات.

عاش صابر السيد، حتى بلغ السابعة والسبعين، يُحكى عنه في الإسكندرية على أنه «الرجل الذي لا يموت»... لكن في صباح يومٍ رمادي من عام 2022، سقط صابر ميتاً في غرفة معيشته البسيطة. لم تكن نهايته بحادث مأسوي أو كارثة طبيعية، بل بكلمة جارحة من زوجته، المرأة التي أحبها لنصف قرن.

في ذلك اليوم، تشاجرا للمرة الأولى في حياتهما حول قرار بيع منزل العائلة، وفي لحظة غضب، صرخت زوجته: «لو كان الموت يأخذ مَنْ يستحق، لاختارك منذ زمن!»

أصابته الكلمة كمدفعية لم تصبه في الحرب، أو كصاعقة لم تصبه في القلب، أو كشاحنة لم تهرس رأسه... نظر إليها بصمت، ثم غادر الغرفة.

بعد ساعات، وجدته جالساً على كرسيه المفضّل، وقد أسلم روحه بسلام، وكأن قلبه توقف عن النبض ليُريها كم كانت كلمتها قاتلة.

قد تمرُّ الكلمات كأشباح عابرة، لكنها تحمل في طياتها قوة تغيير المصائر... فالكلمة الطيبة قد تُنبت زهرة في صحراء الروح، والكلمة الجارحة قد تحفر قبراً في القلب بغير معول.

قصة صابر تذكرنا أن الجروح الجسدية تُشفى، لكن جرح الكلمة يبقى نازفاً في الذاكرة، كظلٍّ لا يفارق.

في عالم أصبحت فيه الكلمات تُلقى عبثاً على منصات التواصل، أو تُستخدم كأسلحة في المعارك اليومية، ربما علينا أن نتذكر دوماً أن الكلمة ليست حروفاً تُلفظ، بل هي روحٌ تُمنح. فاختر كلماتك لأن هناك أناساً لا تسير في الحياة بأقدامها... بل بقلوبها... فرب كلمة تغير حياته للأفضل، ورب كلمة تُرديه المهالك وتدخله اكتئاباً وتسكنه الحزن... ولذلك هناك مَنْ سيدخل النار بسبب كلمة، وهناك مَنْ يدخل الجنة بسبب كلمة...؟ وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله...أبتر.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد