: آخر تحديث

دونالد العرب وفلسفة "فن الصفقة"

8
6
5

في أعقاب الجولة الخليجية الأولى للرئيس الأميركي دونالد ترامب أواخر أيار (مايو)، تتواصل التحليلات حول دلالات هذه الزيارة باعتبارها بدايةً لإعادة اصطفاف إقليمي جديد. إذ يجري إعداد منطقة الخليج لتحوّل عميق؛ ومن المتوقّع أن يشبه "الشرق الأوسط الجديد" الهيكل العالمي، حيث تنقسم الدول بين متقدّمة وأخرى نامية.

لطالما اعتُبرت السياسة الخارجية أداة رئيسية في خدمة المصالح الوطنية، مع اعتمادها على الدبلوماسية العلنية والسرية، إلى جانب وسائل أخرى للتعامل مع الأصدقاء والخصوم على حدّ سواء — وذلك وفقًا لما تذهب إليه الحكمة التقليدية لدى كبار المؤثرين في هذا المجال، من أمثال هنري كيسنجر (1923–2023)، الذي شغل منصبي وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي في إدارات جمهورية بين عامي 1969 و1977.

ثم جاء الرئيس الجمهوري دونالد ترامب، حاملاً معه فلسفة "فن الصفقة" كأحدث أداة في السياسة الخارجية. صفقاته التي تناولت ملفات الطاقة والمعادن في أوكرانيا، بهدف الوصول إلى وقف لإطلاق النار في حربها مع روسيا، لم تُسفر حتى الآن عن أي نتائج. أما فكرته باستبدال "حل الدولتين" بما سماه "حلًا عقاريًا" (غزة) للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، فلم تقلع قط.

ومع ذلك، تبدو زيارة ترامب البارزة إلى الخليج حتى الآن الأكثر نجاحًا في سجل زياراته الخارجية. ففي اليوم الأول، نجح في اقتناص صفقة تجارية بقيمة 600 مليار دولار، تشمل 142 مليار دولار لمعدات عسكرية، مع السعودية. كما أعلنت الإمارات العربية المتحدة في آذار (مارس) التزامها باستثمار 1.4 تريليون دولار. وفي اليوم الأخير من الزيارة، تم الإعلان عن صفقات جديدة بلغ مجموعها 200 مليار دولار.

يرى قادة المنطقة، وفقًا لما ينقله دبلوماسيون غربيون، أن استثماراتهم الضخمة ستعود بعوائد سياسية مجزية. ويعتبرون زيارة ترامب بداية لإعادة اصطفاف جديد في الشرق الأوسط، وخطوة لتحضير الخليج لتحوّل عميق. ومن المتوقع أن يشبه "الشرق الأوسط الجديد" بنية النظام العالمي، حيث تنقسم الدول إلى متقدمة وأخرى نامية. ويبرز قادة أذكياء – مثل ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، الذي يقود مسارًا للتحديث والتحرير – ويقارن بعض المراقبين مشروعه بمشروع التحديث الذي أطلقه محمد علي باشا في مصر في القرن التاسع عشر. وقد استغل محمد بن سلمان الزيارة لتأكيد دور مملكته كقوة مركزية صاعدة في المنطقة، مع إسرائيل كمنافس رئيسي. وفي حين يرى بعض الدبلوماسيين الغربيين في استثناء إسرائيل من الجولة إهانة لقيادتها اليمينية – خاصة في ظل غياب أي ذكر لغزة أو فلسطين في خطابات ترامب العامة – فإن دولًا خليجية أخرى مثل الإمارات وقطر تنضم إلى صفوف القوى الناشئة التي تقترب من ملامح "العالم الأول".

في المقابل، تنزلق قوى إقليمية تقليدية مثل مصر إلى الخلف. فالرواية القديمة عن هيمنة الجيش المصري أصبحت متقادمة وغير صالحة في السياق الحالي. ومع تحوّل التركيز الإقليمي نحو الذكاء الاصطناعي والتقنيات المتقدمة، تفقد الجيوش التقليدية أهمّيتها الاستراتيجية. كما يسهم الضغط الاقتصادي في التآكل الداخلي؛ إذ انحدر الرأي العام المحلي والوجدان الجمعي إلى ما يشبه أحوال ما قبل الحرب العالمية الأولى، بتأثير مباشر من نمط إسلامي ارتدادي يسعى للعودة إلى الماضي. وتحتاج مصر إلى معجزة للحاق بركب التحوّل؛ فبدون إصلاحات جريئة أو قيادة ذات رؤية، فإن البلد الذي تصدّر المشهد الإقليمي لأغلب القرن العشرين، مهدد بالدخول في مرحلة غامضة – وربما قاتمة – من تاريخه، على غرار حالات عدم الاستقرار والركود التي تشهدها ليبيا، والسودان، وسوريا، والعراق.

أثار اعتراف ترامب المفاجئ بالنظام السوري الجديد بقيادة أحمد الشرع – الذي كان مدرجًا على قائمة الإرهاب الأميركية لقيادته فروعًا من تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة (داعش) – حالة من القلق في الأوساط السياسية. ومع ذلك، فإن إعادة تأهيل هذا "الإرهابي السابق" بدت منطقية ضمن سياق التوجهات السياسية الجديدة؛ إذ تمكّن محمد بن سلمان وتركيا من إقناع ترامب بلقاء الشرع ورفع العقوبات عن سوريا. وكانت تركيا تدير خيوط الجماعات الإسلامية المسلحة (بما فيها تنظيمات مصنّفة إرهابية) في سوريا، من خلال تسهيل الإمدادات والأسلحة إلى مناطقهم المحاصرة. وقد تم تمويل هذه الجماعات من قِبل دول خليجية سنية كانت تتحسب من التهديدات الإيرانية عبر وكلائها الإقليميين. وكان إسقاط نظام الأسد، العلوي الشيعي الموالي لإيران، جزءًا من استراتيجية بعيدة المدى لعزل إيران الشيعية ووقف نفوذها وتمويلها لجماعات مثل حزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن. أما مبادرة ترامب بتسمية "الخليج العربي" بدل "الخليج الفارسي"، فكانت رسالة واضحة لإيران حول موقعه في الخريطة الإقليمية.

تعيد قوى إقليمية – وإن لم تُعلن ذلك صراحة – اصطفافها الاستراتيجي حول إسرائيل، والسعودية، والإمارات، وقطر؛ التي كانت أول دولة خليجية تفتتح "بعثة تجارية" لإسرائيل تؤدي عمليًا دور سفارة، وتستضيف في الوقت نفسه قادة حماس، وهو ما جعلها تؤدي دورًا مركزيًا في المفاوضات. وكانت قطر، التي وقّع قادتها صفقة بقيمة 200 مليار دولار مع شركة بوينغ، المحطة الوحيدة التي تطرّق فيها ترامب إلى قطاع غزة، مقترحًا تحويله إلى "منطقة حرية" تشارك فيها الولايات المتحدة. كما نظّم ترامب تجمعًا كبيرًا في قاعدة عسكرية أميركية كبرى على أطراف الدوحة، حيث أعلن – على نحو مفاجئ – عن زيادة في رواتب آلاف الجنود الأميركيين.

مع تَشكُّل شرق أوسط جديد يُقدّم التجارة والذكاء الاصطناعي والتقنيات المتقدمة على التقاليد المتجدرة والتي تعقيق التقدم، بالإضافة الى الصراعات الأيديولوجية، برز سؤال محوري يتعلق بالإسلام. "كيف ستتعامل المؤسسات الإسلامية والإسلاميون مع هذا النظام العالمي الجديد؟" تساءل دبلوماسي مصري مخضرم، مضيفًا أن المؤسسات الإسلامية، التي كانت لعقود قوة مهيمنة بين شعوب الدول ذات الكثافة السكانية المحاذية لإسرائيل، شكّلت العقبة الأساسية أمام العديد من خطط السلام، وكانت على مدى أكثر من قرن حاجزًا رئيسيًا في طريق التحديث.

في السعودية، جَرَّدَ محمد بن سلمان رجال الدين من نفوذهم، فألغى هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقطع تدخلهم في الحياة العامة. ومع تطور أولويات الدول الغنية – التي كانت في السابق ممولًا رئيسيًا للجماعات الإسلامية – يُتوقع أن يختفي التمويل الموجّه لجماعات مثل الإخوان المسلمين. وقد تجد الأيديولوجيات التي تتمسك بفرض الشريعة كأساس وحيد للحكم نفسها مهمشة على نحو متزايد. فالمنطقة لا تشهد إعادة هيكلة اقتصادية فحسب، بل من المحتمل أيضًا أن تمر بتحوّل أيديولوجي عميق.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.