: آخر تحديث
في الوطن العربي:

هل نحن نخرّج عقولًا أم نُنتج نُسخًا مكررة؟

6
7
5

ما التعليمُ في أغلب البلدان العربية إلا آلةٌ صماء، تدور، وتدور، وتدور... بلا وعيٍ، بلا غايةٍ، بلا أثرٍ يبقى بعد الدوران. يخرج الطلاب كما دخلوا، لا فرق بين البداية والنهاية، لا فرق بين عقولهم حين كانوا أطفالًا، وعقولهم حين أصبحوا رجالًا، إلا ما زاد في أرشيف ذاكرتهم من محفوظاتٍ لا تُثير فكرًا، ولا توقظ حسًّا، ولا تنبضُ بأي شيءٍ يُشبه الحياة!

أيُّ مأساةٍ هذه التي جعلت العلم ضدّ العقل، والمعرفة ضدّ الإحساس، والتعليم ضدّ الجمال؟ كيف تحوّلت الفصول الدراسية إلى غرف تعذيبٍ معرفي، فيها تُخنَق الأسئلة، وتُقطع أوتار الخيال، وتُرتَكب أفظع الجرائم ضد الإبداع؟

إنَّنا نقدّم التعليم كما نقدّم الطعام البارد في علبٍ معدنية، بلا نكهة، بلا لون، بلا رائحة... نُلقّن العقول كما تُلقّم البنادق، لا نُدرّس المعرفة، وإنما نُحَشِّيها في أذهان الطلاب كما يُحشى الحطب في المواقد. أيّها المعلّم، أيتها المدرسة، أيها المنهج، لماذا تتآمرون على الجمال؟ لماذا تقتلون كلَّ حسٍّ حيٍّ يمكن أن يجعل العلمَ متعةً، والمعرفةَ مغامرةً، والتعلمَ سفرًا إلى عوالم الفكر؟

إنّ الاستطيقا التعليمية Educational Aesthetics هي الغائب الأكبر في مدارسنا، وفي الوقت نفسه هي الغائب الذي لا يُسمح له بالحضور. في عالمنا العربي، التعلمُ تجربةٌ بلا إحساس، بلا طعم، بلا رائحة، بلا فنّ، بلا خيال! حتى الشعر، وحتى الأدب، وحتى الفلسفة، تُدرَّس بوصفها مقررات جافة كما تُدرَّس الرياضيات والفيزياء الصارمة، فتخرج من بين أيدينا أجيالٌ لا تعرف معنى الجمال، ولا تهتزّ أرواحها حين ترى روائع الكون، ولا ترتعش أفئدتها حين تقرأ أعظم الكتب.

إقرأ أيضاً: السعودية وصناعة التاريخ: حين يقف العالم أمام رجل عظيم

إنّ التعليم الذي لا يُثير الدهشة، ولا يوقظ الإحساس، ولا يجعل المعرفة تجربةً تُشبه الموسيقا، هو تعليمٌ يُشبه السجون. كل شيءٍ فيه جدران، كل شيءٍ فيه قيود، كل شيءٍ فيه مناهج صلبة، لا حياة فيها، ولا ضوء، ولا أمل.

كلّنا وُلِدنا نحبُّ الحكايات، وكلّنا تربّينا على السرد، كلّنا نميل بالفطرة إلى القصص، فلماذا إذا دخلنا المدارس، صار علينا أن نتعلّم كما لو أنّ العالم مجموعةُ قوانين صمّاء، بلا قصة، وبلا مغزى، وبلا حبكةٍ تشدّنا إلى المعرفة؟

لو أنّنا قدّمنا التاريخَ كما نروي الأساطير، لكان الطلاب يتسابقون إليه كما يتسابقون إلى روايات المغامرة. ولو أنّنا جعلنا الفلسفةَ أقربَ إلى الشعر، لأصبح الفكر نشوةً لا امتحانًا مرعبًا. ولو أنّا جعلنا الرياضيات حكايةً عن الكون، وعن الهندسة التي تتكرّر في خلق الله، وعن سرّ الجمال في الأعداد، لما خاف منها التلاميذ، ولما كرهها أحد.

إنّ السردية التربوية Educational Narrativity هي الطريقةُ الوحيدة التي تجعل التعلم مغامرةً لا عقوبة. ولكننا لا نحبّ المغامرات في مدارسنا، ولا نحبّ الرحلات العقلية، ولا نحبّ أن يخرج الطالبُ من كتابه المدرسي، فنُبقيه في الحفرة التي حفرناها له، ونسمي ذلك "الانضباط"، و"النجاح"، و"التفوّق"!

إنّ المدرسة التي لا تُخبر الطالب بأنّ لكلّ معلومةٍ قصة، وأنّ لكلِّ مفهومٍ حكاية، وأنّ كلَّ علمٍ قد جاء نتيجةَ صراعٍ بشريٍّ طويل، هي مدرسةٌ تقتل الروح، وتُخرِّجُ أجيالًا ترى العالمَ كأنهُ جدولٌ من الأرقام...

إقرأ أيضاً: السعودية ترسم خارطة التعافي لسوريا!

في مدارسنا العربية، يُمنع التفكيرُ النقدي، ويُجرَّمُ السؤال، ويُحرَّم الخروجُ عن النص. يُقال للطالب: "احفظ، ولا تسأل!"، ويُقال له: "اكتب كما في الكتاب، ولا تغيّر!".

أيُّ تعليمٍ هذا الذي يمنع الحرية؟ أيُّ معرفةٍ هذه التي تقوم على قمع التساؤلات؟ أيُّ فكرٍ هذا الذي يُطلب من العقل أن يكون نسخةً عن العقول الأخرى؟

لا عجبَ أن نرى الأمم تتقدّم من حولنا، بينما نظلّ نحن في قعر الحفرة، نعيد كتابة المناهج نفسها منذ خمسين عامًا، ونتوقع أن تتغيّر النتائج!

نحنُ نحتاج إلى تعليمٍ يجعل العقل إنسانًا لا آلةً مكرّرة. نحتاج إلى تعليمٍ يكون رحلةً لا سجنًا، يكون نغمةً موسيقيةً لا درسًا بلا معنى. نحتاج إلى تعليمٍ يرى الجمال في كلّ فكرة، ويرى في كلّ علمٍ قصة، ويرى في كلّ معادلةٍ لوحةً فنية.

لكننا لا نجرؤ على هذا التعليم. نخاف منه كما يخاف المجرم من القانون. نخاف أن يُصبح الطالبُ مفكّرًا، بدلًا من أن يكون تابعًا. نخاف أن يسأل، أن يرفض، أن يناقش، أن يقول "لماذا؟"، أن يقول "ولكن!"، أن يقول "هذا ليس منطقيًا!".

إقرأ أيضاً: كيف تُعيد السعودية تشكيل معادلة الترفيه العالمي؟

ولهذا، نبني المدارس كما نبني السجون، ونصنع المناهج كما نصنع القوانين، ونضع الامتحانات كما تُوضع المحاكمات. نريد جيلاً يحفظ، لا جيلاً يُبدع. نريد أتباعًا، لا مفكرين. نريد عقولًا تنحني، لا عقولًا تتأمّل!

متى ندرك أن التعليم لا يكون تعليمًا حتى يكون جميلاً؟ متى نفهم أن العلم الذي لا يُثير الدهشة هو علمٌ بلا قيمة؟ متى نعترف أننا نقتل الفكر منذ اللحظة التي نحشو فيها المناهج بالحفظ، ونجرّدها من المتعة، ونحرمها من الحكاية؟

نحنُ بحاجةٍ إلى مدارس تُشبه المكتبات وإلى مناهج تُشبه الفنون وإلى معلمين يُشبهون الفلاسفة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في كتَّاب إيلاف