: آخر تحديث

معاقبة الأبناء بجُرم الآباء

4
4
4

من القضايا الجدلية التي تُحرمها التشريعات الدولية وتنبذها الفطرة الإنسانية، ولكن ما زالت تُرتكب إما للثأر وإما للانتقام، قضية "معاقبة الأبناء والأحفاد بجُرم الآباء أو الأجداد". هذه القضية تحمل جانباً فلسفياً وأخلاقياً عميقاً، ولها أبعاد مختلفة من حيث المبدأ، حيث لا يُعتبر من العدل ولا الإنصاف معاقبة الأبناء أو الأحفاد بجُرم لم تقترفه أيديهم، لأنَّ المسؤولية الأخلاقية والقانونية فردية في كثير من الشرائع الدينية والقوانين الوضعية، ويتحمل الإنسان مسؤولية أعماله فقط.

شريعتنا الإسلامية الغراء جاءت واضحة وصريحة بأن كل فرد يتحمل وزر أفعاله، قال تعالى: "ولا تزر وازرة وزر أخرى"، فلا يجوز معاقبة الأبناء أو الأحفاد بجريرة الآباء. كذلك، تؤكد القوانين الدولية الحديثة مبدأ عدم المسؤولية الجماعية. هذا المفهوم المثير للجدل قد يكون مرتبطاً بعقوبات قانونية أو اجتماعية أو سياسية أو حتى دينية في كثير من الحضارات القديمة. فقد كان مفهوم العقاب الجماعي سائداً، حيث يتم تحميل أسرة الشخص أو حتى قبيلته بأكملها مسؤولية جرائمه. في قانون حمورابي الشهير (1792-1750 ق.م)، نجد أنَّ بعض الأحكام تُطبق بشكل يمتد للعائلة، مثلاً، إذا ارتكب شخص جريمة خطيرة مثل القتل أو السرقة، يمكن أن تُعاقب عائلته إذا كان الجاني قد هرب. أما في الإمبراطورية الصينية خلال فترة حكم سلالات مثل سلالة تشينغ، فكان هناك نظام يسمى "عقاب التسع عائلات"، وهو أسلوب عقابي يُعدم فيه الجاني وعائلته الممتدة (حتى الأجيال البعيدة)، وكان الهدف منه ردع الآخرين عن ارتكاب الخيانة أو التمرد.

في الأعراف القبلية لدى بعض القبائل العربية التي ما زالت تحتكم لأعراف القبيلة بعيداً عن قانون الدولة، إذا ارتكب فرد من القبيلة جريمة قتل، كانت القبيلة الأخرى تسعى للانتقام من أقربائه أو أبناء قبيلته، بغض النظر عن علاقتهم المباشرة بالجريمة. وهذا جزء مما عُرف بنظام الثأر القبلي.

في أوروبا الإقطاعية وخلال العصور الوسطى، إذا ارتكب أحد الفلاحين جريمة ضد اللورد الإقطاعي، يمكن أن يتحمل أبناؤه وأحفاده عقوبة أو عقوداً من العبودية كتعويض عن أفعال والدهم. كذلك، في بريطانيا خلال العصور الوسطى، كانت تُعتبر الخيانة جريمة لا تُغتفر، وغالباً ما تُنفذ عقوبات تمتد إلى نسل الجاني، كمصادرة الأراضي والحرمان من الحقوق. وتطبق كوريا الشمالية سياسة تُعرف بـ "عقاب الأجيال الثلاثة"، حيث يُعاقب الجاني وعائلته حتى الجيل الثالث. أما التشريعات والقوانين الحديثة في معظم دول العالم، فتسعى لحماية الأفراد من مبدأ "العقاب الجماعي" أو "معاقبة الأبناء بجريرة الآباء"، وذلك بناءً على مبادئ العدالة والإنصاف وحقوق الإنسان.

إقرأ أيضاً: مستقبل التواجد الروسي في سوريا

وينصّ المبدأ القانوني الأساسي على الفردية في المسؤولية، حيث تعتمد معظم الأنظمة القانونية الحديثة على مبدأ "شخصية العقوبة"، الذي يعني أن كل شخص يتحمل مسؤولية أفعاله فقط. ويتجلى هذا المبدأ في القوانين الجنائية التي تنص بوضوح على أن الجريمة والعقاب أمران شخصيان، ولا يمكن تحميل الآخرين المسؤولية. وتنص المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948 على أنه "لا يجوز فرض عقوبات جماعية أو معاقبة الأفراد بسبب أفعال لم يرتكبوها شخصياً".

كما تنص الدساتير العربية، مثل الدستور المصري، الأردني، التونسي وغيرها، على أن الجريمة شخصية، وأن العقاب لا يمتد إلى أقارب الجاني. كذلك، تحظر القوانين الدولية، كما هو منصوص عليه في الاتفاقيات الحقوقية، معاقبة الأبناء أو أفراد الأسرة بشكل مباشر أو غير مباشر بسبب جرائم أحد أفراد الأسرة. وتنص اتفاقية حقوق الطفل لعام 1989 على أن للأطفال حقوقاً مستقلة، ويجب حمايتهم من أي شكل من أشكال العقاب أو التمييز بسبب أفعال آبائهم.

إقرأ أيضاً: هل ما زالت أميركا حليفًا مناسبًا للعرب؟!

كما يمنع القانون الدولي الإنساني العقوبات الجماعية، خصوصاً في أوقات النزاعات، وتنص اتفاقيات جنيف بوضوح على حظر تحميل الأبرياء مسؤولية جرائم غيرهم. وتؤكد قوانين العقوبات الحديثة في العالم العربي، مثل القوانين في الأردن والسعودية والإمارات، على استقلالية المسؤولية الجنائية للأفراد. ففي قانون العقوبات الأردني، لا يجوز توقيف أو معاقبة أفراد الأسرة بسبب جريمة ارتكبها أحد أفرادها.

التشريعات في أوروبا وأميركا تُعتبر رائدة في حماية حقوق الأفراد، حيث لا يمكن أن تتأثر حقوق الأبناء بحالة جنائية تخص آباءهم، سواء من حيث الميراث أو الحقوق المدنية. فمبدأ العدالة يمنع تطبيق العقاب الجماعي، حيث لا يمكن اعتبار الأبناء مسؤولين عن أفعال لم يرتكبوها، لأن ذلك يتنافى مع مبدأ العدالة. من جانب آخر، قد تؤدي العقوبات الجماعية إلى تفكك الأسرة والمجتمع، وزيادة مشاعر الانتقام والكراهية، وتقويض السلم الأهلي. ومن منطلق الحفاظ على الكرامة الإنسانية، يتطلب الأمر معاملة كل شخص بشكل مستقل، وعدم تحميل الأبرياء وزر غيرهم، لأن ذلك يؤدي إلى خلق جيل مظلوم يشعر بالاضطهاد.

وقد أكدت التشريعات على ضرورة معاملة كل فرد ككيان مستقل بذاته، ومع ذلك يبقى التحدي الأكبر في تغيير العقليات الاجتماعية لضمان تحقيق العدالة بشكل كامل.

إقرأ أيضاً: أمم تتطلع للمستقبل وأخرى أسيرة الماضي

من القصص المرعبة للثأر التي يدفع ضريبتها الأبناء عن جرائم الآباء، قضية "طفل الزرقاء" في الأردن، وهي واحدة من أبشع الجرائم التي هزت الرأي العام العربي في السنوات الأخيرة، وتعد مثالاً مأساوياً على معاقبة الأبناء بجريرة الآباء. ففي عام 2020، تعرض فتى أردني، كان يبلغ من العمر 16 عاماً آنذاك، لجريمة وحشية، حيث قامت مجموعة من الأشخاص بخطفه وبتر يديه وفقأ إحدى عينيه في عملية انتقام مروعة، نتيجة خلاف بينهم وبين والده بسبب قضايا سابقة تتعلق بأعمال غير قانونية. وبدلاً من مواجهة الأب مباشرة، لجأ المجرمون إلى الطفل صالح، معتقدين أن الانتقام من الابن سيوجه ضربة أقسى للعائلة. لقد صدمت هذه الجريمة الجميع، ليس فقط بسبب بشاعتها، ولكن لأنها استهدفت طفلاً بريئاً لا علاقة له بما فعله والده.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في كتَّاب إيلاف