تتجه حياتنا اليومية نحو نمط جديد، متجاوزةً التقسيمات التقليدية للزمن بين الليل والنهار أو المواسم والفصول. كما يصف ليوناردو كافو في كتابه "سرعة الهروب"، حيث أُزيل الانتظار الطبيعي الذي كان يمنح الوقت عمقاً وتأملاً. أصبحت كل دقيقة مشبعة بالإلحاح ومحفوفة بمحفزات تسيطر على وعينا وتجعلنا عاجزين عن التفكير الحر في الحاضر أو استشراف المستقبل. إنَّ الزمن يبدو الآن وكأنه مبعثر في شذرات غبارية تفقد معناها في ضبابية متصلة، تماماً كما تساءل بيرغونزوني: "مع كل هذه القصاصات الزمنية، أي صورة يتشكل عنها وجودي؟".
تبدو الأشياء التي حملت ماضينا، مثل الكتب والملاحظات المكتوبة بخط اليد، وكأنها تنتمي إلى عصر غابر. لم نعد نعرف حتى خط يد من عرفناهم في العقود الأخيرة، وكأن الوجود قد تقلص ليصبح رقمياً بحتاً. أما الصور المؤطرة، التي كانت تعكس ذاكرة ما، فتبدو وكأنها هُجرت منذ التسعينيات، مستبدلةً بإيقاع رقمي يسرّع التآكل ليس فقط في الأشياء بل في الأدوار والمهارات، محولاً البشر أنفسهم إلى سلع. وهنا يبرز أمل غامض، كما يشير دانيال دينيت، في ضرورة وجود "علامة مائية" تذكرنا بإنسانيتنا وسط هذا التحول التسليعي الشامل.
الأجيال الجديدة، التي تعيش في هذه الحقبة الرقمية، تبدو أقل ارتباطاً بالماضي، متصلة بالكاد بأجيال سابقة، وكأنها شاهد صامت على "نهاية التاريخ". فترسبات الجائحة، إلى جانب تسارع الزمن الرقمي، غيرت إدراكنا للوقت، بما يبدو أن الذاكرة الجماعية فقدت بوصلتها؛ فحتى محاولات استعادة الشعور الزمني الشخصي تصطدم بمقاومة داخلية، تثير شعوراً بالضيق وعدم التوازن.
إقرأ أيضاً: كتاب الموتى الرقمي والحق في النسيان
في ظل هذا الإطار، يظهر تساؤل فلسفي حول العلاقة بين الأمل وإدراك الزمن. إنَّ الأمل، في سياق الحضارة الغربية، يرتبط بالقدرة على استشراف المستقبل والتقدم، لكن الرقمنة و"تسطيح الزمن" جعلا هذا المستقبل أشبه بأرض غير صالحة لزرع بذور الأمل. حتى الرغبات الفطرية، مثل الحب والعاطفة، لم تعد تمنح الحياة بهجتها القديمة.
الأمل في هذا السياق ليس عديم الجدوى، لكنه يبدو مشوهاً ومختزلاً إلى "توقعات صغيرة" تخلو من الطموحات الكبرى. كما يصف إرنست بلوخ، الحلم لطالما تجاوز حدود اليومي، متطلعاً إلى آفاق أبعد. ومع ذلك، فإن الآمال الصغيرة، رغم ضرورتها أحياناً، قد تقود إلى حياة تفتقر إلى العمق والمعنى إذا لم ترتبط بآمال كبرى تمنحها سياقاً وغاية.
إقرأ أيضاً: الحكم الإنساني في النسق المجتمعي
من هنا، يتضح أنَّ التعليم، الذي يشكل علاقة بين الأجيال، يتحمل مسؤولية زرع الآمال الكبرى لدى الأطفال. ليس من خلال التركيز على النجاح المادي أو الأمان الشخصي فقط، بل من خلال تعليم الشجاعة، الكرم، حب الحقيقة، والرغبة في المعرفة والتغيير. الآمال الصغيرة، إذا سادت وحدها، قد تولّد جواً من الجمود والاكتفاء أو الخوف من الحياة. أما الآمال الكبرى، فهي وحدها التي تحمل إمكانية تجاوز الذات، وتفتح المجال للإبداع الإنساني.
وكما أن الأمل ليس مجرد شعور، بل فعل مرتبط بالحب والإخلاص، فهو استثمار واعٍ يتطلب رؤية واضحة وشغفاً بالعمل، وليس مجرد تفاؤل ساذج. ليصبح الأمل قوة تجمع بين الفرد والجماعة، بين الحاضر والمستقبل، بين الرغبة والحقيقة، ليعيد صياغة الوجود الإنساني في ظل عصر يتحدى كل ما هو مألوف.