قبل فترة ليست ببعيدة، كان الخناق يضيق أكثر فأكثر على زعيم هيئة تحرير الشام، أبو محمد الجولاني أو كما بات يُعرف باسم أحمد الشرع؛ فقوات الرجل القادم من رحم تنظيم القاعدة انحسرت بشكل كبير في محافظة إدلب، التي تُعد واحدة من أصغر المحافظات السورية.
مشكلة الجولاني لم تكن في تضاؤل المساحة الجغرافية التي تسيطر عليها قواته فقط؛ فـ"هيئة تحرير الشام" كانت تمر بأصعب مراحلها منذ الإعلان عنها نتيجة التراشق بين قيادييها باتهامات تتضمن التعامل مع أجهزة استخبارات أجنبية روسية، أميركية، بريطانية وفرنسية، وتسريب كامل معلومات المنضوين في الهيئة.
اتهامات العمالة التي طالت قيادات كبيرة في الجناح العسكري للهيئة أدت إلى بروز دور جهاز الأمن العام المشرف على العمل الأمني، فتصدعت الهيئة أكثر مع زج العشرات من القياديين في السجون، وكان أبرزهم ميسرة الجبوري، المعروف باسم أبو ماريا القحطاني، الذي كان رفيق درب الجولاني منذ تأسيس جبهة النصرة، حيث كان مفتيها.
ولم تكد أزمة القادة العسكريين المسجونين تنتهي بإعلان براءة الغالبية العظمى منهم واعتراف الجولاني نفسه بأخطاء ارتُكبت بحقهم، حتى انفجرت في وجهه مشكلة ثانية أكثر تعقيداً، تمثلت بخروج تظاهرات شعبية في إدلب وأريافها تُطالب برحيله من قيادة هيئة تحرير الشام. وفجأة، وجد نفسه في مواجهة مشايخ ورجال دين يحظون بشعبية عالية بين السكان في المحافظة، وعلى رأسهم رجل الدين الإسلامي السوري عبد الرزاق المهدي، الذي كان يُعد من أوائل المنتفضين على النظام السوري عام 2011، وأكثر المرحبين بالجهاديين كعناصر حزب الإسلام التركستاني.
استمرت التظاهرات لأشهر طويلة، وقوبلت بالشدة من قبل جهاز الأمن العام الذي أظهر ولاءً مطلقاً لزعيم هيئة تحرير الشام، رغم كل الانتقادات التي طالت عناصره واتهامهم بأنهم يقومون باستنساخ الأفعال التي كان رجال أمن النظام يقومون بها ضد المتظاهرين.
إقرأ أيضاً: لبنان في مأزق والحل وصاية جديدة؟
هذه الأحداث التي كانت تعيشها إدلب جعلت سيناريو قيام المعارضين وهيئة تحرير الشام بعملية عسكرية لاستعادة ما خسروه في السنوات السابقة أمراً مستبعداً؛ فالجولاني أصبح في مواجهة كبار قادة النصرة، كالقحطاني وأبو مالك التلة (جمال زينية)، وأيضاً كبار المشايخ المحبوبين في أوساط الشرائح الشعبية كعبد الرزاق المهدي، إضافة إلى كونه مُصنفاً كإرهابي وعلى رأسه مكافأة قدرها عشرة ملايين دولار.
لكن الذي حدث أنَّ الجولاني كان يعمل بعيداً مع مؤسسات دولية قيل، بحسب المعلومات، إنها قدمت منهجاً لزعيم الهيئة يجب اتباعه لتلميع الصورة. هذا المنهج يتضمن أولاً إبعاد الجهاديين القادمين من الصين والشيشان وأوزبكستان والمغرب العربي عن المشهد بشكل كامل، وترحيل من يمكن ترحيله، والتخلص من المشاكسين، أي باختصار اجتثاث من يمكن أن يلطخ الصورة التي يجري رسمها، والخروج بخطاب براغماتي ينزع من ذهن الناس الإطلالات السابقة.
إقرأ أيضاً: إعلانٌ منتظر من دمشق قد يقلب المشهد في سوريا
خرج أحمد حسين الشرع في الأيام الأخيرة من إدلب، ودخل دمشق فاتحاً كما كان يُريد، مرتدياً ثوب رجل السياسة البراغماتي وحتى رجل الدولة الحريص على الدستور وانتظام عمل المؤسسات، مؤكداً حق السوريين بجميع طوائفهم بالعيش الكريم وحرية العبادة. ولكن يبقى السؤال: هل هذه التصريحات ستكون ذات صلاحية محدودة وعندما تنتهي سيُعاد إحياء صورة الجولاني القديم التي لا تزال راسخة في الأذهان؟ أم أنه فعلاً تغيّر وتوقف لإجراء دراسة نقدية ورسم صورة مستقبلية؟ وإذا كان هكذا، فالوقائع ستكون أقوى من التصريحات، وعليه فقد يبدأ بما تحدث عنه في محافظة إدلب نفسها، حيث بإمكانه إعادة المنازل والأراضي المصادرة للدروز والمسيحيين، التي تُقدر بآلاف الهكتارات. ومع خلع أبواب السجون في صيدنايا وحمص وحلب وحماة، يمكنه الإعلان، بمناسبة ولادة سوريا الجديدة، عن إقفال أبواب سجن العقاب والسجون الأخرى، والسماح بعودة معارضي النظام الذي قاتلتهم جبهة النصرة وأخرجتهم من سوريا.