يعود تاريخ الصوم إلى العصور القديمة، حيث كان الناس يمارسونه في مختلف الثقافات والديانات.
وفي القرن الحادي عشر، بدأ استخدام الصوم كأداة للضغط على الحكومات تعبيرًا عن المطالب والاحتجاجات السياسية والاجتماعية.
في القرن الحادي والعشرين، أي في أيامنا، بات للصوم - بسبب البعض، وهم كثر - أهداف دنيوية مخجلة تقضي على مفهومه الأساسي في تطهير النفس، ومحاولة إعادة بناء علاقة روحية متينة مع الخالق خلال شهر كامل لدى المسلمين وحوالى 55 يومًا لدى المسيحيين.
للأسف، الصوم اليوم أداة تسويقية رابحة لكثيرين يعيدون صياغته على طريقتهم، وبالإيمان الاصطناعي العابر للحقيقة والشفافية والحق.
يقول جبران خليل جبران في قصيدته "المواكب": "الخير في الناس مصنوع إذا جُبِروا، والشر في الناس لا يفنى وإن قُبِروا"، ليؤكد على حقيقة مفادها أن الأصل في الإنسان هو الشر، أما الخير فلا يقوم به الإنسان إلا عندما يبتغي من ورائه مصلحة ما.
أما الفيلسوف المتصوف أبو حيان التوحيدي، فيرى أنَّ الإنسان مزيج من الخير والشر، لكن الواقع يؤكد أن الغلبة تعود للشر غالبًا، إذ يضطر الإنسان لتهدئة هذا الشر، لكنه قلما يفلح في ذلك، فيتضح حينئذ مدى الشر الذي يسكن هذا الكائن - حسب التوحيدي.
أما جان جاك روسو، فيذهب إلى اعتبار أن لا شر في الكون إلا ما يفعله الإنسان، ليعطي بذلك دليلًا قويًا على أن كل الشرور التي توجد في هذا الكون مصدرها البشر.
ماذا يعني ذلك؟
إذا اعتبرنا أن الشر مرادف لطبع الإنسان، وجزء من تركيبته الفطرية، فإننا نتحدث عن صفة بارزة فيه يضطر لإخفائها لمسايرة طبعه الاجتماعي، ولتهدئة هذا الشر وسط الجماعة، ولا يظهره إلا في الحالات التي يتعرض فيها للاستفزاز أو الظلم أو الذل أو ما شابه - حسب دراسة عن Central Washington University.
ولكن هل يمكن للإنسان المراوغة مع الله؟ كيف يبرر شره في شهر الصيام؟ وهل لو صام، يصوم فقط ليدعي العفة والتقوى والتوبة؟
قال الله تعالى في القرآن الكريم: "إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ" {هود: 114}، ولكن الراجح أن الحسنات لا تمحو الكبائر، وإنما تكفّر الصغائر.
الشر الذي يسكن النفس البشرية ويصارع الإنسان طيلة حياته للقضاء عليه من خلال أفعاله ونواياه.. هل يعتبر من الكبائر أم من الصغائر؟ هل الصيام قادر على تنظيف النفس من الحسد والطمع وزرع الأفخاخ للآخرين والسرقة والنميمة والغطرسة والأنانية وغيرها؟
التوبة في الديانة المسيحية ليست بعيدة عن المفهوم الإسلامي، فهي تعني ببساطة قرار تغيير الاتجاه، وهي رجوع إلى الله. أما بخصوص ترك الخطايا، فهو نتيجة طبيعية للتوبة وتغيير اتجاه القلب. صحيح أنَّ الصيام الكبير يقضي بالامتناع عن أكل اللحوم والألبان والبيض والجبن والحليب ومشتقاته، ويتم خلاله التركيز على الأكل النباتي، لكنه ليس مجرد "ديتوكس" للجسد فقط، بل فترة توبة حقيقية – لو طُبّقت بمفهومها العميق – يركز فيها الصائم على نقطة الضعف أو "الخطيئة" المتكررة في حياته ويحاول الامتناع عنها أثناء الصوم ليكون صومه مقدسًا.
حقيقةً، المسألة معقدة وأبعد من أن تكون مجرد طقوس دينية تُطبَّق في زمن معين.
إقرأ أيضاً: هواجس سائقي التاكسي في دبي
ولكن لا بد أن نرى أن الصوم بأبعاده المختلفة، المحسوسة وغير المحسوسة، هو وسيلة ناجعة لتهذيب النفس وتأديبها وتدريبها، لأنه يجعل الصائمين يتساوون بشعور واحد وحس واحد وطبيعة واحدة، وهذه طريقة عملية لتربية الرحمة في النفس، وبالتالي إعلاء قيمة الرأفة بالفقراء، والشفقة على المحتاجين، والعناية بالضعفاء.
كتب نجيب محفوظ، من بين ما كتب عن الصوم، أن طاعة الله ومحبته تقتضيان واجبات روحية لعلها أخطر من الصيام نفسه؛ من أهمها تحرير الروح من عبادة أي شيء أو أي شخص، وأيضًا إرساء روح التضامن في المجتمع الإنساني، التي جعلت للفقير حقًا في مال الغني. وكتب محفوظ: "على ضوء هذه المبادئ ينبغي لنا أن نحاسب أنفسنا، وأن نسائلها عن موقفنا الحقيقي من الدين الذي نؤمن به والله الذي نعبده".
لا شك أن البشر في أزمة.. شهواتهم تسيرهم، وسعيهم للتخمة من الحياة بمفهومها الأرضي يزيد من حجم الفجوة التي تتوسع في نفوسهم، وتضع حواجز إسمنتية بين سمائهم وأرضهم.
هم يريدون الاستمتاع حد الخطيئة، ويريدون التوبة ولو عجزوا عن تطبيقها، ويتذاكون بالتعامل مع خالقهم، ولو عاشوا في "المنطقة الرمادية".
تارةً يبتعدون عن إنسانيتهم، وطورًا يمارسونها، وموسمًا يؤازرون الفقير ويدوسونه مواسم.. والله صابر على ازدواجيتهم ومراوغتهم، لعل الحياة تروضهم يومًا وترسي فوضى نفسهم وروحهم، فيصبحون في تناغم مع أناهم - الأنانية المسيطرة بطبيعتها - المتحولة بإرادتهم ونيتهم الصادقة إلى "أنا" متناغمة مع الكون والله والجمال.. ولو متأخرًا.
وهنا نسأل.. هل خلال رحلة الإنسان مع شروره التي يحملها منذ ولادته - حسب علم النفس - ومحاولاته لكبحها بالشكل وبالجوهر، يمكن للصوم عن الطعام أن يكون إحدى الأدوات الرابحة في سعيه الشاق للتكفير عن نزعاته وغرائزه المؤذية؟ أم أن الصوم الغذائي وحده غير كافٍ، لا بل فاضح لمساومته المكشوفة مع الرب؟ وهل الله يحاسبنا - نحن البشر - من منطلق تركيبتنا الضعيفة الواحدة؟ أم بوضع علامات لكل واحد منا على سعيه لترويضها حسب قدراته وظروفه؟
مهما يكن، فلنقل إن الصوم والمراوغة في زمن الصوم لا يجتمعان.