: آخر تحديث
حين يصبح الجمود الإداري حُجة للهرب من المحاسبة:

بين وهم الاستقرار وحقيقة الانهيار المؤسسي

4
4
4

إذا كان الإنسان بطبعه يخشى التغيير، وإذا كان المدير أو الرئيس، شأنه شأن سائر البشر، يتجنب المخاطرة ويأنس بما اعتاد، فإنَّ هذا الميل إلى الاستقرار قد يكون سببًا في جمود المؤسسات وركودها، وفي أحياناً كثيرة سبب تراجعها وانهيارها. غير أن الخوف من الفشل المؤسسي Fear of Institutional Failure، وهو خوفٌ مشروعٌ إن كان في موضعه، لكن قد يتحول إلى هاجس يشلّ الإرادة ويُقعِد عن الفعل، فيظل القائد مترددًا، يتحرى الحذر في قراراته، ويتجنب الإصلاح خشية أن يكون الإصلاح سببًا في إدانته أو فقدانه لمنصبه. وإذا كان الأمر كذلك، فكيف لنا أن نرجو من هؤلاء القادة بناء مؤسسات راسخة قادرة على مواجهة التحديات؟

أما الجمود الإداري Administrative Rigidity، فهو الوجه الآخر لهذا الخوف، إذ لا يكون القائد جامدًا عن عجز، وإنما عن حسابات تضمن له البقاء في منصبه دون أن يجازف بمصيره. فهو يرى أن التغيير مغامرة، وأن المغامرة مخاطرة، وأن المخاطرة تهدد الاستقرار، فإذا به يختار الطريق الأسهل؛ طريق المراوحة في المكان، والاقتصار على إدارة اللحظة Momentary Management بدلًا من التخطيط للمستقبل. ولو أنه أيقن أن البقاء في المنصب ليس غاية في ذاته، وأن المسؤولية تفرض عليه مواجهة الأزمات بدلًا من تفاديها، لما لجأ إلى هذا الجمود الذي يعطل الحركة ويقضي على روح الابتكار.

إقرأ أيضاً: انسجام الفكر العلمي والإنساني في سوق العمل الحديث

وهنا تتجلى المفارقة: فالمؤسسات التي تحتاج إلى التغيير والنمو، تقف عاجزة أمام المقاومة التنظيمية Organizational Resistance، لا لأن الموظفين يعارضون الإصلاح، بل لأن القادة أنفسهم لا يجرؤون على المضي فيه. وكيف لهم أن يجرؤوا وهم يعلمون أن المحاسبة لا تكون إلا عند الخطأ، ولا تطال من يُعرِض عن الفعل، بل تطال من حاول فأخفق؟ فإذا كان التقصير في الإدارة لا يؤدي إلى العقاب، بينما يُلام المبتكر إن أخطأ، فلا عجب أن يشيع الخوف، ويستشري الجمود، وتتحول المؤسسات إلى هياكل إدارية خاوية Hollow Administrative Structures، لا تتغير إلا حين تضطرها الأزمات إلى ذلك اضطرارًا.

ولكن، أليس الأولى أن تكون المحاسبة على التقصير في الفعل كما تكون على الخطأ في القرار؟ وأليس من العدل أن يُسأل القائد عن تجنبه للتغيير كما يُسأل عن سوء إدارته له؟ إن المحاسبة لا ينبغي أن تكون وسيلة للانتقام، فهي آلية لضمان تطور المؤسسات، ولا يجوز أن تكون أداة لقمع المبادرة، حيث يجب أن تكون حافزًا لصنع القرار المسؤول. فإذا علم القائد أن تردده سيُحاسب عليه كما يُحاسب على قراراته، وإذا علم أن الخوف من الفشل لا يعفيه من المسؤولية، فقد يدفعه ذلك إلى التخلي عن الجمود، وإلى مواجهة المقاومة التنظيمية لا بوصفها عقبة، وإنما باعتبارها جزءًا من سيرورة التغيير.

إقرأ أيضاً: التعليم الإنساني: ثورة على التشيؤ الأكاديمي

وإذن، فلن تكون القيادة مسؤولية حقيقية إلا إذا كان صاحبها مستعدًا لأن يُسأل لا عن أخطائه كما يحاسب عن صمته وتقاعسه أيضًا. ولن يكون الإصلاح ممكنًا إلا إذا تغيرت نظرتنا إلى المحاسبة، فلم تقتصر على إدانة من اجتهد ولم يُصب، بل شملت من آثر السلامة على المجازفة، ومن خشي التجديد خشية أن يؤخذ عليه خطأ في التنفيذ. وعندئذ فقط، يمكن للمؤسسات أن تتجاوز خوفها من الفشل، وأن تتحرر من جمودها الإداري، وأن تمضي في طريق التطوير بثبات وثقة، لا يوقفها خوف ولا تعطلها حسابات ضيقة، وإنما يحفزها وعي حقيقي بالمسؤولية، وإدراك بأن النجاح لا يكون إلا لمن تجرأ على المحاولة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في كتَّاب إيلاف