: آخر تحديث
التحديات الأمنية والسياسية في الساحل السوري

السويداء بين التدخلات الخارجية ومطالب التشاركية والعدالة الانتقالية

5
4
4

إيلاف من لندن: تحمل التطورات المتسارعة في الساحة السورية منحىً  خطيرا في ظل التوترات الأخيرة، بعدما برزت محاولات فلول النظام السابق لاستعادة السيطرة على بعض المناطق في مدينتي اللاذقية وطرطوس على الساحل السوري، مستغلة  حالة الفوضى والتوترات الطائفية.

تزامن ذلك مع زيادة حدة التصريحات الخارجية التي تنبأت بصراع كل من إيران وتركيا وإسرائيل على رقعة نفوذها في الأراضي السورية، ما يزيد المشهد تعقيدًا.

قرى الساحل السوري، شهدت الايام القليلة الماضية توترات أمنية متسارعة، بعد قيام مجموعات مسلحة تابعة للنظام السابق بنصب كمائن للقوات الأمنية في ريف اللاذقية، ما أسفر عن مقتل العشرات وجرح آخرينبحسب ما أفاد به "المرصد السوري لحقوق الإنسان". .وكان الضابط السابق في جيش النظام، غياث دلا، قد أعلن تأسيس ما سماه "المجلس العسكري لتحرير سوريا" بعد الهجوم المنسق الذي استهدف قوات الأمن السوري في منطقة الساحل، وفق بيان متداول على منصات التواصل الاجتماعي.

من جانبها، اتخذت قوات الامن العام قرارًا باللجوء إلى الحل العسكري للتصدي لهذه المحاولات بشكل حاسم. وبالتزامن مع بدء العملية الأمنية، انتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي فيديوهات تظهر وقوع انتهاكات بحق المدنيين وسط اخبار عن اشتباكات متبادلة راح ضحيتها عسكريون من قوات الاسد ومدنيون في الوقت نفسه. 

وفي الوقت نفسه تم اعلان  النفير العام في عدة مدن سورية منذ يوم امس، كما انتشرت دعوات للالتحاق بقوات الامن العام التابعة للحكومة المؤقتة وتقديم الدعم لهذه العملية الامنية.

يصف البعض التحركات في الساحل السوري بانها بعيدة عن المطالب السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية،  خصوصا مع تورط قوات النظام السابق وبدعم ايراني في اشعال فتيل الاقتتال. وبالطبع لا يمكن للحل السياسي أن ينجح مع من يسعى لإعادة دولة الكبتاغون.

الا أن اللجوء الى العنف المفرط والعمليات الانتقامية المقابلة، كما يظهر في العديد من الفيديوهات المسربة، واقع امكانية التوصل الى توافقات، ويزيد من خطورة الموقف في ظل غياب اي مسار واضح لعدالة انتقالية شاملة، وتراجع في تأثير الخطاب الوطني السوري الجامع لمواجهة الخطابات المتطرفة والانتماءات الضيقة المدعومة بالسلاح من الخارج.

على الجهة المقابلة، في محافظة السويداء ذات الأغلبية الدرزية، فإن الوضع ليس أقل حدة وتأزم، فقد شهدت المحافظة تطورات سياسية واجتماعية بارزة، حيث ظهرت دعوات انفصالية من قبل جهات مدعومة من إسرائيل، ترافقت مع تصريحات لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو بالتزام إسرائيل بحماية الأقلية الدرزية.

إسرائيل التي تسعى لتأمين حدودها الشمالية من "المد السني" الجديد بقيادة تركيا، بحسب زعمها، تعمل على إشعال الصراعات الطائفية، ومدخلها إلى الجنوب السوري بات بوابة "حماية الأقلية الدرزية".

وهنا تستثمر إسرائيل في تردي الأوضاع الاقتصادية وارتفاع معدلات البطالة، وتنامي الخوف من شكل وطبيعة السلطات السورية الجديدة ذات التوجهات الإسلامية والتاريخ الجهادي. ويتنامى هذا التوتر مع فشل الحكومة الجديدة في الوفاء بالتزاماتها ووعودها، وحتى هذه اللحظة، لم يتسلم كثيرون من الموظفين رواتبهم التقاعدية، ولم يتم اتخاذ أية إجراءات توحي برغبة السلطات في دمشق باتباع نهج تشاركي في الحكم والسلطة.

من جانبها، تستقبل القيادات الروحية في السويداء، متمثلة بالشيخ حكمت الهجري، هذه الضبابية وغياب التنفيذ الفعلي للوعود التي قطعتها السلطات الجديدة في دمشق بالتوجس الحذر. وترى ان ذلك سبب رئيسي لرفض تسليم السلاح، احتفاظًا منها بحق الدفاع عن الذات أمام التوجهات الاسلاموية المتشددة التي تورطت في وقت سابق قبل سقوط النظام بتنفيذ هجمات ضد الدروز، كما فعل تنظيم داعش في عام 2018، في حين ان تجربة الدروز في ادلب، ولو انها لم تكن بتلك الدموية الا انها فرضت وصاية قاسية تحت حكم هيئة تحرير الشام.

لذا، يبدو أن الوصول لتفاهمات حول السلاح متوقف، ريثما يتم التوصل إلى فهم أعمق لشكل وطبيعة الدولة والسلطات القادمة، على الرغم من انقسام الفصائل حسب تبعياتها حول هذا الموضوع.

أما الحراك الشعبي في السويداء، الذي تصدر التظاهرات ضد نظام الأسد في السنوات الماضية، فما يزال بغالبيته يرفض المخططات التقسيمية وتدخلات الهيئات الروحية في الشأن السياسي على حد سواء. وهو يؤكد على الهوية الوطنية الجامعة، رافضًا ومنددا بالتصريحات الإسرائيلية.

لكن مع غياب تنظيمات سياسية حقيقية تعكس واقع الشارع في المحافظة، فان الانقسام هو سيد الموقف، على الرغم من وجود تحركات من قبل بعض الفاعلين في الشان العام لإيجاد "مجلس القرار الوطني". وهذا مقترح قدمه الناشط والإعلامي ماهر شرف الدين، ويلقى تجاوبًا من قبل الهيئات الدينية والاجتماعية الفاعلة، بحسب وصفه، الا ان تلك الخطوات لاتزال في مراحلها الاولى وقد لا تتوصل الى توافقات حقيقة على الارض ما لم يتم تضمين كافة الفصائل والجهات ذات الوزن.

في ظل التحديات الراهنة والمشهد السياسي المعقد في سوريا، تتجلى ضرورة ملحة لإطلاق حوار وطني شامل، يتناول جميع المخاوف دون تردد، بما في ذلك حماية الأقليات وضمان المشاركة الفاعلة في السلطة.

لقد أدى تجاهل هذه المخاوف سابقًا إلى تفاقم الأزمات وتزايد الشعور بالمظلومية. ولذا، ينبغي على السوريين قيادة جهود دبلوماسية داخلية لبناء توافقات بين مختلف المكونات وتحديد الأولويات المشتركة. 

تقع على عاتق السلطات السورية الحالية مسؤوليات جسيمة يجب الاضطلاع بها قبل السعي لتحقيق التوافقات الخارجية ونيل الشرعية الدولية. وأولى هذه المسؤوليات هي الشروع في مسار "عدالة انتقالية" شامل، بالإضافة إلى تأسيس إعلام حقيقي وشفاف يمنع انتشار الشائعات والتجييش الذي يتفشى عبر قنوات التواصل غير الرسمية، مثل قنوات التلغرام التي أصبحت مصدرًا للأخبار حول الشأن السوري.

وفي هذا السياق، على الرئيس أحمد الشرع مخاطبة جميع السوريين، وتقديم التطمينات اللازمة، وفتح المجال لمشاركة سياسية حقيقية تبدد مخاوف التطرف والتفرد بالحكم، التي أصبحت مصدر قلق للعديد من السوريين بمختبف انتماءاتهم . ذلك ان الخوف اليوم قد يكون شرارة للغضب في الغد.

ثم إن الاستمرار في تجاهل العمل على "عدالة انتقالية" شاملة، والاعتماد على الميليشيات الخارجية، قد يقود البلاد إلى صراع طائفي قد ينتهي بحرب أهلية لا تُحمد عقباها.

غياب "العدالة الانتقالية" يفتح الباب أمام "عدالة انتقامية" تحمل مظلوميات اذا لم تتم معالجتها، سيؤدي إلى استمرار دائرة النزاع دون نزع الفتيل.

الجميع مطالبون اليوم بضبط النفس ومواجهة استحقاقات المرحلة القادمة. وعلى السلطة الجديدة في دمشق أن تدرك أن استخدام القوة المفرطة دون رادع قانوني كان السبب الرئيسي لزوال نظام بشار الأسد. وفي التاريخ دروس لأولي الألباب.

*باحثة في التاريخ والسياسة في جامعة كنت - بريطانيا


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في كتَّاب إيلاف