لا يضيّع العنصريون أي فرصة لاستثمار أي خلاف بين الكرد أنفسهم، كي يحققوا مآربهم في التحريض والتشويه والتشفي. يتربصون بكل فرصة سانحة، ويبحثون عن أي ثغرة يمكنهم النفاذ منها لتأكيد خطاباتهم العنصرية التي تروج لمقولات بالية مثل أن "الكرد ضيوف"، أو أنهم "غير قادرين على إدارة أنفسهم"، بينما الواقع ينقض كل ذلك، ويفضح النوايا الحقيقية الكامنة وراء هذا الخطاب الخبيث.
لقد وصلت الأمور ببعض هؤلاء العنصريين إلى حد التهديد الصريح، والتلويح بمآلات قاتمة لمن يدافع عن شعبه الكردي، أو يعارض النظام وأدواته. بل إنهم يفتعلون القصص ويختلقون الافتراءات، محاولين جرّ الكرد إلى مواجهات داخلية، كي يظهروا أمام الرأي العام وكأنهم متناحرون، غير قادرين على الوحدة، فتتحقق بذلك غاياتهم في تشويه النخب الكردية، وضرب القضية الكردية في عمقها.
لقد كنت شاهداً على نماذج من هذا السلوك، حيث حاول بعضهم، ومن بينهم من يدّعون أنهم "ثوار"، أن يصوروا أي نقد يوجه إلى مؤتمر ما، أو فعالية مشبوهة، على أنه استهداف شخصي، بل وتمادوا في كذبهم حتى ادعوا أننا وصفناهم بالدواعش، وهو افتراء لا أساس له. ما قمنا به هو طرح تساؤلات مشروعة، مثل: لماذا لم يدافع هؤلاء "الثوار" عن سري كانييي، وهي جزء من منطقتهم نفسها؟ هل في هذا إهانة؟
لكنهم، بدلاً من الرد بموضوعية، اختاروا المزايدة والتضليل، وسعوا إلى تحريف الكلام، بهدف إشعال فتنة، والاستثمار في الخلافات، لصالح جهات معروفة بعدائها التاريخي للكرد.
استهداف متعمد للنخب الكردية
يتحدث بعض هؤلاء العنصريين بلهجة استعلائية، وكأنهم وحدهم الصادقون، وكل النخب الكردية- رؤساء الأحزاب، والمثقفون، والإعلاميون، والمدرسون - مجرد "مخادعين"، حسب زعمهم. لم يسلم أحد من حملاتهم التشويهية، حتى الرموز التاريخية لم تسلم، فقد تطاولوا على الآباء والأجداد، وحاولوا تلويث سيرتهم الناصعة، في محاولة لطمس أي شرعية تاريخية لوجود الكرد في أرضهم، ملتقطين هذيانات فيسبوكية، يمكن أن تقال عن ذوي هؤلاء، ولا يعتد بها، بل ولا نعتد بها.
لكن، ماذا عن ماضيهم هم؟ أين كانوا عندما كنا نواجه نظام الأسد بكل ما أوتينا من قوة؟ ألم يكن بعضهم خدماً في بلاط الاستبداد؟ هل امتلكوا الجرأة في أي يوم لمواجهته، كما واجهناه؟ أم أنهم انتظروا حتى تغيرت الظروف، ولبسوا قناع "الثورة" ليعيدوا إنتاج خطابهم العنصري، لكن بصيغة جديدة؟
استغلال الخلافات العائلية لضرب القضية
أكثر ما يثير الاشمئزاز هو عندما يُستغل خلاف شخصي بين فردين كرديين، ليتم تحويله إلى "دليل" على صحة الدعاوى العنصرية ضد الكرد جميعاً. إذ يتجاهلون السياق الحقيقي للخلاف، ويتعمدون اختزال القضية الكردية كلها في حادثة- أساسها وهم- أو سوء تفاهم بين أفراد، كأن مصير شعب بأسره مرهون بلحظة غضب أو زلة لسان، أو ردة فعل كاذبة.
لكن الحقيقة أن أي خلاف بين أبناء القضية الواحدة، مهما كان حاداً، يظل شأناً داخلياً، ولا يغير من عدالة القضية الكردية ولا من تاريخها. فكيف يتجرأ من جاء إلى هذه المنطقة حديثاً، من بوابات مشبوهة، على التدخل في شؤونها، وهو الذي لا يملك أي شرعية تاريخية أو أخلاقية لذلك؟
معاداة الكرد
مشروع قديم متجدد
إنَّ استهداف النخب الكردية ليس بالأمر الجديد، فهو جزء من استراتيجية مستمرة منذ عقود، هدفها إفراغ القضية الكردية من محتواها، وإظهار الكرد بمظهر المتصارعين على الفتات، بينما الواقع أن من يحاول تكريس هذا الانطباع هم من يحملون أجندات معروفة، يسعون إلى تقسيم المجتمع الكردي، لضمان بقائه ضعيفاً، غير قادر على المطالبة بحقوقه المشروعة. إن من يتشفى بخلافاتنا، ويحاول أن يروج لفكرة أن الكرد "متناحرون"، إنما يكشف عن نواياه الحقيقية، التي لا تمت إلى "الحرص" على استقرار المنطقة بصلة، بل ترتبط بعقلية عنصرية، لا تستطيع تقبل حقيقة أن الكرد أصحاب قضية عادلة، وأنهم، رغم كل المحاولات لضرب وحدتهم، يظلون رقماً صعباً في المعادلة الإقليمية.
لذلك، فإنه كان لا بد من الرد على هذا الخطاب النتن، وهو ما قمت به في مقالي "لغة البقر"، ليس انتقاصاً من أحد، بل رفضاً لهذا الانحطاط الأخلاقي الذي يجعل بعضهم ينحدر إلى مستوى التخوين والتحريض، بدلاً من النقاش الموضوعي. إنني، رغم اختلافي مع أي شخص كردي، لا أقبل أن يكون هذا الخلاف مادة بيد الحاقدين والعنصريين، الذين يتخذونه ذريعة للطعن في الكرد ووجودهم. فأنا، كابن هذه الأرض، أعرف من أين أتيت، ومن هم أهلي وأجدادي، وأعرف أيضاً أن هؤلاء الذين يحاولون تشويه صورتنا ليسوا سوى أدوات لمشاريع معروفة، لا يمكنها أن تستمر إلا ببث الفتن وتأجيج الصراعات.
الجزيرة وشعبها و الحقيقة الثابتة
نحن أبناء الجزيرة، ونعرف بعضنا جيداً، ونعرف أيضاً من أتى إلى هذه المنطقة في ظروف معينة، ليجد لنفسه موطئ قدم، ثم يتحول إلى "حارس" مزعوم للأخلاق والقيم، بينما تاريخه الشخصي حافل بما هو نقيض نترفع عن محاورته. ومن يريد التشكيك في هذه الحقائق، فليعد إلى أرشيف النظام، الذي لا يزال يحتفظ بالكثير من الأدلة على هوية من كانوا أدوات في يده، ومن كانوا ضحاياه.
إن محاولة استغلال أي خلاف داخلي بين الكرد، لا تعني شيئاً سوى أن هناك من يريد وأد القضية برمتها، وتحويلها إلى صراعات هامشية تخدم أجندات الآخرين. لكن هذا المخطط لن ينجح، لأن الحقيقة ثابتة، والتاريخ لا يُمحى، وأي محاولة لطمسها ليست سوى استثمار خاسر في الكراهية.
لطالما كانت علاقتي بأهلنا العرب قائمة على الاحترام العميق، فهم أهلي وشركائي في هذه الأرض، ناضلنا - وشرفاؤهم بل وعوامهم الشرفاء - معًا. كل حسب إمكاناته، ضد الاستبداد، وتقاسمنا المعاناة كما تقاسمنا الأمل في غدٍ أفضل. لم يكن موقفي يومًا موجَّهًا ضد العرب كشعب، بل ضد أولئك الذين يضمرون العداء للكرد، ويعملون على طمس هويتهم وحقوقهم. وحين كتبت مقالي لغة البقر، فقد كان موجَّهًا حصريًا لمن استهدفوا الكرد بخطاب الكراهية والتشويه، وليس لمن يؤمنون بحق العيش المشترك، لا نفاقًا ولا رياءً، بل انطلاقًا من قيم الأخوة الحقيقية. هؤلاء الذين يؤمنون بالعدالة والمساواة هم شركاؤنا في النضال والمصير، ولن نسمح للمحرضين أن يفرقوا بيننا.