بعد أكثر من عقد على تسريبه آلاف الصور التي وثّقت أفظع الجرائم داخل سجون النظام السوري، كشف "قيصر"، فريد المذهان، المساعد الأول السابق في الشرطة العسكرية السورية، عن هويته الحقيقية لأول مرة. ظهر المذعان للعلن متحدثاً عن تفاصيل رحلته التي بدأت مع اندلاع الثورة السورية عام 2011. منذ البداية، قرر الانشقاق عن النظام، لكنه بقي في موقعه لفترة أطول، ليس بدافع الولاء، بل لجمع أدلة دامغة توثق الجرائم الوحشية التي ارتُكبت بحق المعتقلين، ونقلها إلى العالم الخارجي.
شغل المذهان منصب رئيس قسم الأدلة القضائية في الشرطة العسكرية، حيث كُلّف بتصوير جثث المعتقلين الذين قتلوا تحت التعذيب. منذ الأيام الأولى للثورة، كانت الجثث تتدفق إلى المشرحة، وكان يوثق يومياً نحو 15 جثة، لكن مع تصاعد القمع الوحشي، ارتفع العدد ليصل إلى 50 جثة يومياً قبل انشقاقه في عام 2014.
كانت عمليات التصوير تجري داخل مشرحة مشفيي تشرين وحرستا العسكريين، ومع ازدياد عدد الضحايا، حوّل النظام مرآب مستشفى المزة العسكري إلى مستودع لتكديس الجثث قبل إخفاء معالم الجريمة، ولم يكن الهدف من التوثيق مجرد الاحتفاظ بالسجلات، بل كان وسيلة لإثبات تنفيذ عمليات التصفية، حيث استخدم الضباط الصور لإظهار ولائهم للنظام.
إنَّ عمليات القتل والتعذيب في السجون السورية لم تكن مجرد تجاوزات فردية، بل سياسة ممنهجة بأوامر من القيادة العليا، فضلاً عن تزوير شهادات الوفاة للمعتقلين، حيث كان يُسجَّل سبب الوفاة بـ"توقف القلب والتنفس"، بينما كانت الجثث تحمل آثار تعذيب وحشي، ويتم تعذيب المعتقلين حتى الموت.
أظهرت الصور عيوناً مفقوءة، وأضلاعاً مهشّمة، وأجساداً هزيلة نتيجة التجويع القسري. إضافة إلى استغلال أهالي المعتقلين بابتزازهم مالياً مقابل وعود زائفة بالكشف عن مصير أبنائهم، رغم أن معظمهم كانوا قد فارقوا الحياة.
مجمل هذه الأدلة لم يكن تسريبها إلى الخارج بالأمر الهين، فقد عمل المذهان على تهريب الصور يومياً لمدة ثلاث سنوات، مستخدماً وحدات تخزين (USB) لإخراجها من الشرطة العسكرية. كان يخفي هذه الملفات في منزله بمدينة التل، التي كانت آنذاك تحت سيطرة الجيش الحر.
في عام 2014، ومع اشتداد الخطر، قرر الفرار نهائياً من سوريا، متجهاً أولاً إلى الأردن، ثم قطر، حيث بدأ التعاون مع منظمات حقوقية دولية لكشف الجرائم التي وثّقها. لاحقاً، ساعده مكتب المحاماة البريطاني "كارتر روك" في تقديم ملفه للمحاكم الدولية، ومنحه اسم "قيصر"، وهو الاسم الذي بات مرتبطاً بأكبر تسريب يوثق الجرائم في سوريا.
إقرأ أيضاً: "التكويع".. وجدلية القمع والتغيير
لم تكن صور "قيصر" مجرد أدلة، بل شكّلت صدمة عالمية، ما دفع الولايات المتحدة إلى فرض "قانون قيصر" عام 2019، وهو قانون فرض عقوبات اقتصادية صارمة على النظام السوري وكل من يتعاون معه. كان الهدف من هذه العقوبات الحد من انتهاكات حقوق الإنسان والضغط على النظام السوري لوقف القمع ضد المدنيين.
بالرغم من نجاحه في فضح الجرائم، لا يزال المذهان يعيش في خوف مستمر على حياته وحياة عائلته التي تقيم في فرنسا. لم يتمكن من الاندماج في المجتمع الفرنسي أو حتى تعلم اللغة، إذ يشعر بأنه ملاحق من قبل النظام الذي لم يتردد سابقاً في تصفية معارضيه بالخارج.
ورغم أن العالم كله اطّلع على الوثائق التي سرّبها، فإنَّ العدالة لا تزال بعيدة عن التحقيق الكامل في الجرائم التي كشفها، وهو ما يجعله يعيش بين هاجس الانتقام وأمل تحقيق العدالة يوماً ما.
إقرأ أيضاً: أبعاد زيارة أمير قطر إلى سوريا
تظل شهادة "قيصر" واحدة من أقوى الأدلة التي كشفت الوجه الحقيقي للنظام السوري البائد، وجعلت ضحاياه مرئيين أمام المجتمع الدولي، بعد أن حاول النظام إخفاء آثارهم. إنها قصة شجاعة استثنائية، حيث خاطر فرد بحياته ليظهر الحقيقة، في مواجهة نظام استخدم كل وسائل القمع للحفاظ على سلطته.
هذه الشهادة الحية، تظل وثيقة تاريخية تدين مجرمي الحرب وتؤكد أن العدالة، مهما تأخرت، لا بد أن تتحقق يوماً ما.