هوليوود لم تكن يوماً مجرد صناعة للترفيه، بل هي قوة ناعمة تمتلك نفوذاً سياسياً هائلاً يتجاوز حدود السينما والفن، استوديوهات الأفلام، شبكات التلفزيون، ومنصات البث الكبرى ليست مؤسسات اقتصادية فقط، بل أدوات إعلامية تشكل الرأي العام، وتؤثر في الانتخابات، وتدعم توجهات سياسية لداعميها وعلاقتها بالأحزاب السياسية والحكومات الكبرى تكشف عن تحالفات خفية، حيث يتقاطع المال، النفوذ، والأيديولوجيا في لعبة معقدة تحركها المصالح.
منذ منتصف القرن العشرين، ارتبطت هوليوود بشكل وثيق بالحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة والسبب الرئيسي لهذا الارتباط يعود إلى سيطرة الأفكار الليبرالية والتقدمية على الوسط الفني، حيث تمثل القضايا الاجتماعية مثل حقوق الأقليات، المساواة الجندرية، التغير المناخي، والهجرة محوراً رئيسياً في الإنتاجات السينمائية والتلفزيونية.
استوديوهات مثل والت ديزني، وارنر براذرز، ونتفليكس تدعم بشكل علني المرشحين الديمقراطيين، حيث يساهم نجوم السينما والمخرجون والمنتجون في حملات التمويل الانتخابي، ويستخدمون منصاتهم للترويج للسياسات الليبرالية. على سبيل المثال، خلال حملات باراك أوباما وهيلاري كلينتون وجو بايدن، قدمت هوليوود بشكل علني دعماً مالياً وإعلامياً هائلاً ، سواء من خلال التبرعات أو عبر إنتاج أفلام ومسلسلات تسلط الضوء على القضايا التي يتبناها الحزب الديمقراطي.
على الجانب الآخر، علاقة هوليوود بالحزب الجمهوري أكثر تعقيداً، رغم وجود بعض الشخصيات المحافظة في الصناعة مثل كلينت إيستوود وميل جيبسون، فإن التيار العام في هوليوود ينظر إلى الجمهوريين بعين الريبة، خصوصاً بسبب مواقف الحزب من قضايا مثل حقوق المثليين، الإجهاض، وتنظيم حمل السلاح.
خلال رئاسة دونالد ترامب، كانت هوليوود في حالة حرب مفتوحة مع البيت الأبيض، حيث هاجمه المشاهير في حفل توزيع جوائز الأوسكار، وظهر في الأفلام والمسلسلات كمصدر للتهديد والتطرف. في المقابل، وصف ترامب هوليوود بأنها (ماكينة دعاية لليسار الراديكالي) وهاجم شبكات مثل CNN وHBO وNetflix، متهماً إياها بالتحيز الإعلامي ضد المحافظين.
بشكل قاطع يمكن اعتبار شبكات التلفزيون والإنتاج الضخمة مثل HBO، FX، ونتفليكس أدوات سياسية مؤثرة، حيث تبني سرديات تتماشى مع الأجندة الليبرالية. على سبيل المثال، مسلسلات مثل The Handmaid’s Tale وBlack Mirror تقدم إسقاطات سياسية مباشرة على إدارة ترامب، بينما تعالج أفلام ديزني قضايا العرق والمساواة بطرق تُظهر دعمها لأجندة الديمقراطيين.
إقرأ أيضاً: أسرار الفاتيكان: بين صرح الإيمان ودهاليز المال
لكن الأمر لا يقتصر على الولايات المتحدة، فهوليوود تستخدم نفوذها الإعلامي للتأثير على السياسات الدولية أيضاً. الأفلام والمسلسلات التي تتناول قضايا مثل حقوق الإنسان في الصين، الجرائم الاسرائيلية ، والتدخلات العسكرية الأمريكية تخضع لضغوط سياسية من الحكومات، مما يؤدي أحياناً إلى تعديل السيناريوهات أو حذف مشاهد بالكامل لضمان عدم إثارة غضب حلفاء واشنطن أو القوى الاقتصادية الكبرى مثل الصين..
ورغم خطابها الليبرالي، لا تتردد هوليوود في التعاون مع الحكومات الديكتاتورية عندما يكون ذلك في مصلحتها الاقتصادية. العلاقة بين الاستوديوهات الكبرى والصين مثال صارخ على هذا التناقض ، على سبيل المثال ديزني قامت بتصوير أجزاء من فيلم Mulan في إقليم شينجيانغ، حيث تتهم الحكومة الصينية بارتكاب انتهاكات ضد الإيغور، مما أثار انتقادات واسعة ، ومارفل ووارنر براذرز قاما بتعديل مشاهد في أفلام مثل Doctor Strange وTop Gun: Maverick لحذف أي إشارات يمكن أن تزعج السلطات الصينية، وذلك لضمان بقاء أفلامهم في السوق الصيني المربح.
في المقابل، عندما يتعلق الأمر بروسيا أو الشرق الأوسط، فإن هوليوود تتبنى موقفاً أكثر صدامية، حيث تُنتج أفلاماً تُظهر الحكومات غير الحليفة لأمريكا كمصدر للشر، مثل تصوير إيران وكوريا الشمالية في أفلام التجسس كخصوم دائمين للولايات المتحدة دون الفصل بين الأنظمة والشعوب في صورة تنميط سافرة ضد شعوب وثقافات..!
الشركات الإعلامية الكبرى ليست فقط أدوات تأثير ثقافي، بل هي أيضاً لوبيات سياسية تمتلك نفوذاً مباشراً داخل واشنطن ، استوديوهات مثل ديزني ونتفليكس تنفق عشرات الملايين سنوياً على جماعات الضغط لضمان سياسات تخدم مصالحها، مثل تخفيف قوانين الاحتكار، حماية حقوق الملكية الفكرية، وضمان استمرار الدعم الحكومي للإنتاج السينمائي.
إقرأ أيضاً: هل نقترب من مرحلة توجيه العقول؟
في المقابل، بعض السياسيين يستخدمون هوليوود كمنصة لتعزيز صورتهم، حيث يظهر المرشحون الديمقراطيون بانتظام في برامج حوارية مثل The Late Show with Stephen Colbert وSaturday Night Live، بينما يواجه الجمهوريون صعوبة في الحصول على نفس الدعم الإعلامي.
لكن في السنوات الأخيرة، بدأت تظهر محاولات لإنشاء (هوليوود محافظة) حيث أسس بعض المستثمرين اليمينيين منصات إعلامية جديدة مثل The Daily Wire التي يقودها المحافظ بن شابيرو، والتي تنتج أفلاماً تتبنى مواقف معاكسة للتيار الليبرالي السائد في هوليوود. ومع ذلك، تبقى هذه المبادرات صغيرة مقارنة بسطوة الاستوديوهات الكبرى.
لكن مع تزايد الانقسام السياسي في أمريكا، من المتوقع أن يتزايد الاستقطاب داخل صناعة السينما، حيث قد نشهد مستقبلاً تبايناً أكبر بين الإنتاجات التي تعكس القيم الليبرالية السائدة، وتلك التي تحاول تقديم سرديات محافظة بديلة.
إقرأ أيضاً: أراضٍ خارج السيادة… لغز الجغرافيا والسياسة
الخلاصة هوليوود ليست مجرد صناعة سينما، بل آلة سياسية ، سواء كان ذلك من خلال الأفلام والمسلسلات، أو عبر التمويل السياسي واللوبيات، تبقى هوليوود قوة سياسية لا يستهان بها. دعمها المستمر للحزب الديمقراطي، مواجهتها المتكررة مع الجمهوريين، وتحالفها مع الحكومات الأجنبية عندما تقتضي المصلحة، يجعلها أحد أكثر الكيانات تأثيراً في المشهد السياسي العالمي…
ختاماً… من يسيطر على الشاشة يسيطر على العقول، وهذا هو جوهر اللعبة التي تلعبها هوليوود منذ عقود.