لاشك أن حصول الإدارة السورية الجديدة على الشرعية والاعتراف الاقليمي والدولي بشكل متسارع يشير إلى رغبة قوية ويعكس إرادة عربية ودولية في فتح صفحة جديدة مع سوريا، بما يضمن استقرار هذا البلد العربي الكبير، ويحافظ على وحدته وتماسكه ويحقق مصالح شعبه، وفي المقابل فإن العالم ينتظر من الإدارة السورية أن تتجاوز بنجاح وكفاءة اختبارات الثقة وتثبت فعلياً امتلاكها أجندة وطنية لا علاقة لها بماضي هذه الإدارة نفسها، واثبات حسن نواياها وصورتها الجديدة وإبعاد شبح كل ما يربطها بالتنظيمات والعناصر الارهابية التي تهدد الأمن والاستقرار في المنطقة والعالم.
منذ الساعات الأولى لتوليها المسؤولية، وهناك احساس لدى الجميع بأن قادة الإدارة السورية الجديدة يدركون حساسية موقفهم ويستوعبون جيداً أهمية إعادة بناء صورتهم الذهنية وتقديم أنفسهم بشكل مغاير لما يمكن أن يكون قد علق في ذاكرة الجميع بشأن مواقفهم وأفكارهم وأيديولوجيتهم، كما يبدو أن الإدارة السورية تدرك خطورة استغلالها أو بألأحرى توريطها في بعض المواقف وتفخيخ علاقات سوريا الجديدة مع بعض الدول العربية، لذلك فقد أحسنت هذه الإدارة صنعاً عندما تصدت بسرعة وحزم للكيان الإرهابي الذي سمى نفسه ب"ثوار 25 يناير"، والذي ظهر من دمشق ليهدد أمن مصر الشقيقة ويدعو المصريين للعمل على "اسقاط النظام"، ليثير مخاوف السلطات في مصر من استغلال الأوضاع في سوريا الجديدة لحشد وتجميع العناصر الارهابية المناهضة للدولة المصرية، التي عانت طويلاً ودفعت أثمان بشرية ومادية كبيرة حتى نجحت في التخلص من كابوس الارهاب الذي تسبب في خسائر فادحة للاقتصاد والشعب المصري من عام 2011.
لا أحد يمكن أن ينكر صلة الإدارة السورية الجديدة بالتنظيمات الارهابية المتطرفة، والعالم أجمع يعرف ذلك، ولكن ما حدث وما قدم فعلياً من دعم ومساندة واعتراف عربي ودولي بالإدارة الجديدة هو تأكيد على رغبة دول الاقليم والعالم في تجاوز تلك الحقبة شريطة مراعاة الأولويات والخطوط الحمراء بالنسبة لهذه الدول، وليس سراً أن في مقدمة وصدارة تلك الخطوة ما يتعلق بطي صفحة الماضي وقطع الصلة نهائياً مع تنظيمات الارهاب والأهم عدم السماح بتمركز هذه التنظيمات أو أي من عناصرها على الأراضي السورية، أو اتخاذها منطلقاً لتهديد دول الجوار والعالم.
تجارب الماضي القريب في منطقتنا منذ فوضى عام 2011، تشير إلى أن المخفي في مخططات تنظيمات الارهاب يفوق المعلن بمراحل، لذلك ليس من السهل على أي دولة أن تغض الطرف عن أي تهديد محتمل مهما كانت ضآلته، وهو ما يفسر ردود الفعل الغاضبة من إعلان أحد عناصر "جماعة الفتح" تهديد الدولة المصرية من قلب دمشق، وهو أيضاً ما أدركت خطورته على الفور السلطات السورية الجديدة وبادرت للتعامل بشفافية وإعلان القبض عليه رغم عدم الافصاح عن الإجراءات التي ستتخذها بحقه.
خطورة هذه العناصر والتنظيمات المأجورة لا تنبع من حجم وتأثير قدراتها الفردية أو حتى التنظيمية، بل من ارتباطاتها الخارجية واستعدادها دوماً للعمالة وتلقي أوامر التشغيل والتخريب من جهات وأطراف تمتلك أجندات وأهداف تسعى لتحقيقها سواء على صعيد دولة بعينها أو المنطقة بأكملها، لذلك كثيراً ما وجدنا خلال سنوات فائتة انتقالات مفاجئة وغير متوقعة لهذه التنظيمات من بلد لآخر في المنطقة من دون سابق إنذار.
الإدارة السورية الجديدة أعلنت غير مرة أن سوريا لن تصبح مصدر تهديد لأي دولة في العالم بما في ذلك دولة إسرائيل، وهذا خطاب طمأنة جيد تتطلبه هذه المرحلة، التي تحتاج حشد كل الطاقات والجهود الإقليمية والدولية من أجل إعادة بناء الدولة السورية وتحقيق تطلعات شعبها في الأمن والاستقرار، وقد رافقت هذا التأكيد بملاحقة كل من يخالف موقفها الرسمي المعلن من "رفاق الماضي"، الذين يمثلون تحدياً بالغ الصعوبة والأهمية لقدرة هذه الإدارة على تحييد خطرهم بأي من الطرق والآليات التي ترتأيها مناسبة لتحقيق أهدافها، لاسيما أن قادة الإدارة الجديدة هم أدرى بطبيعة العناصر والتنظيمات التي رافقتهم طيلة رحلة الصراع العسكري مع نظام بشار الأسد، ومناطق تمركزهم وتسليحهم وأهدافهم وشبكة ارتباطاتهم التنظيمية داخلياً وخارجياً، ومن ثم يمكن لها بناء تصورات أو خطط للتعامل مع هذا التحدي الأمني المعقد للغاية، واعتقد أن هذا الملف أحد أكثر الملفات إلحاحاً وأولوية على أجندة عمل هذه الإدارة باعتباره المفتاح لبناء الثقة الحقيقية مع الدول العربية والمجتمع الدولي.
بلاشك أن الاجتماع الوزاري العربي الدولي بشأن سوريا الذي عقد مؤخراً بالرياض بحضور مسؤولين عرب وأجانب ووزير الخارجية السوري الجديد، أسعد الشيباني، يعكس إرادة عربية تقودها المملكة العربية السعودية لتصحيح أخطاء الماضي في التعامل مع سوريا، حيث يجد العرب في معطيات الوضع الراهن ما يوفر فرصة سانحة للغاية لاستعادة سوريا للحاضنة العربية، ولا ننسى أن هذا الحراك العربي قد انطلق بعد أيام أو أسابيع قلائل من سقوط نظام بشار الأسد ولم يتردد العرب كثيراً هذه المرة، وهذا له دلالات عميقة للغاية تستحق الانتباه من دمشق، لذلك فإن هناك فرصة موازية وأهم أمام الإدارة السورية لاستغلال التوجه العربي القوي وتفادي الوقوع في أي أخطاء ولاسيما ما يتعلق من ذلك بالخطوط الحمر المعلنة للعرب، وأهمها بطبيعة الحال، أمن واستقرار سوريا والحفاظ على سيادتها ووحدة أراضيها وعدم السماح بوجود عناصر أو تنظيمات ارهابية على أراضيها، باعتبار ذلك مفتاحاً أو مدخلاً رئيسياً للحصول على دعم ومساندة العرب والإسراع باستئناف عملية التنمية وإعادة إعمار ما دمرته الحرب وعودة ملايين السوريين إلى بلادهم.
وقد حصلت الإدارة السورية الجديدة بالفعل على دعم عربي غير مسبوق في مؤتمر الرياض، الذي طالب برفع العقوبات الاقتصادية الدولية المفروضة على سوريا بشكل عاجل، لذلك فإن على أحمد الشرع ورفاقه مسؤولية ضخمة في الحفاظ على هذا الزخم وأن يعملوا على تحقيق ما وعدوا به العالم وأن يكون التزامهم بالجدية وتنفيذ الالتزامات التي تعهدوا بها، على قدر ما أحاط بهم اقليمياً ودولياً من حسن الظنون.