إلى الطفل عطا، وكلّ طفلٍ وُلد للحبّ فاغتالته الحروب
عَطا…
لم تكن صغيرًا فحسبُ،
بل كنت تلهو ببراءة الطفولة.
أيـا قمرًا تاه ضوءُه في زرقة العيون،
وكأنَّه امتزج بأشعة الشمس الذهبية
لتسطع شقرته،
وأنت في حزمة ربيعك
كفلقة القمر،
ولا تزال في طور الهلال.
يا لحنًا ذاب على شفة الصِّبا،
يا سيمفونيةً تلاشت على وتر البراءة
قبل الغناء،
يا صدىً أُطفِئ قبل النداء.
زعموا تماديك،
ولكني أتساءل:
متى يتمادى الحلم؟
هل يتمادى الحلم في دفء الرغيف؟!
هل يتمادى في نغمة اللحن؟ في الغناء؟!
يا إلهي…
قيّدوك،
حملوك،
قبضوا الأنفاس والأضواء،
وفي إحدى الليالي اقتادوك،
خلف القضبان قذفوك،
مع ألفين من الأبرياء،
دون ذنبٍ ولا جرمٍ
سوى الانتماء للوطن،
لكوردستان الكرامة والأصالة،
لجودِّيها، لأرارات،
لحمرين، لخانقين،
لقلعة شيروان، لسِيروان ودجلة،
للشمس، للنور والضياء،
للراية الحمراء…
ولم تنتهِ بعد الحكاية.
⸻
بمرارة اللوعة والحزن
أسرعتِ الخُطا أمُّ عطا،
تُهرول مُقبلةً في يوم الزيارة،
تجترّ مرارة ريقها،
ترتشف دموعها،
بريئةٌ كوحيدها،
مسكينةٌ لم تكن تدري – مثل غيرها من أمهات الضحايا –
أنَّه لقاء الوداع.
دخلت وهي تنادي بملء فيها:
عطااااااا… داية بقربان!
أين أنت؟ تعال!
تقدَّم عطا كرضيعٍ للتوّ يخطو خطواته الأولى،
بمشقةٍ، بالكدّ يسحل رجليه،
متهدّجًا صرخ عطا:
“داية قربان!
داية، لقد ضربوني!”
وارتمى بين ذراعيها،
حنينًا إلى صدر أمه.
ضمّته بقوة،
بلهفة اللبؤة،
رفعت قدمه إلى خدّها بكلتا يديها،
وكأنها ستسحب وجعه إليها.
تنهَّدت، ثم رفعت يديها ووجهها إلى السماء:
ربّاه! تُرى… ماذا فعلنا نحن الكورد؟!
ما ذنبُنا وقد تكالبت الأنظمة
وتراكمت علينا المصائب؟!
أجل… وكأنَّ السماء ردّت:
إنه الانتماء،
للوطن،
لكوردستان الكرامة والأصالة.
⸻
صدى صوت السجّان
يتردّد في بهو السجن المغلق:
انتهت الزيارة، اخرجوا!
صُعِقت أمُّ عطا،
دبَّت اليقظة في عروقها،
وكأنَّ دقّات قلبها تقول لها:
استيقظي أيّتها المغفّلة!
إنَّه لقاء الوداع…
لن تري عطا ثانيةً.
حضنَتْه،
ناهيك عن القُبَل،
ضمَّته بشدّةٍ إلى صدرها،
رمته خلفها،
تحاول أن تحميه…
الناس خرجوا جميعًا،
وبقيت هي مع وحيدها.
تتأمّل أسوار السجن العالية المتينة،
تفكّر بعيدًا،
لتطير به،
لتنقذه…
ولكن هيهات! هيهات!
فما الذي تصنعه راحتان صغيرتان ناعمتان
لامرأةٍ عزلاء؟
صرخ السجّان في وجهها:
اخرجي!
لكنّها — الأمومة الحقّة —
تتوسّل، تتضرّع بلهفةٍ،
لا بالعربية التي لا تعرفها،
بل بلغتها الكوردية الأصيلة:
«مِنْ لێره عطا له و ێ !»
أيّها السجّان،
بحقّ الأمومة، ابقني هنا في السجن،
وليخرج عطا.
وحيدي صغيرٌ،
سجنه حرام،
وتعذيبه إجرام.
لكن السجّان لم يستجب،
وهل يمتلك العبد حرية الإرادة والقرار؟
إنه عبدٌ مأمور من المجرم،
من ضيّاع العراق،
مجرم العراق بحق البشر،
بحق الكورد والعرب،
بحق الإنسانية كلّها!
دون جدوى…
ثم همّت بالخروج،
واستأسدت.
التفتت إلى عطا،
رشفت دموعها المنسابة الممزوجة بمرارة ريقها،
وخاطبت وحيدها باعتزاز:
ولدي، صغيري…
اصبر، وليكن ما يكون.
هذا تراب كوردستان،
فلتكن ذبيحها،
ذبيح الانتماء
للوطن،
لكوردستان الكرامة والأصالة.
⸻
سلسلة الإعدام حديديّةٌ صمّاء،
عديمة الشعور،
كقلب أبي وداد الخالي من الوداد،
مُنفِّذ الإعدام.
مربوطةٌ بجرّة غازٍ ثقيلة،
معدّة للإعدام لا للطبخ،
لكنّها لم تُرهِب عطا،
لأنَّه لا يعرف الإعدام،
ولا معنى الإعدام،
وإنّما ما قهره
أنهم سلبوه ألعابه — ألعاب الطفولة.
أنهم حملوه إلى أبي وداد كريشةٍ،
وبقدمه الناعمة ربطوا جرّة الغاز،
والجرّة مربوطةٌ بالباب،
وسحبوا عتلة باب الآخرة،
لتسحب عطا،
وتنفصل رقبته،
وينقطع نخاعه.
غادر القمر،
لكنّه بقي نجمًا ساطعًا في سماء الوطن،
وصار بدرًا ينير لكوردستان.
فبكى الليلُ خطى طفلٍ قضى فجرًا،
وقبل أن يدنو الضياء.
آه…
يا وجعَ أمٍّ لم تجد
غير قبرٍ من ترابٍ وادّعاء،
نامت عيونُك،
غير أننا لم نزل نحيا
على صوت السؤال والنداء:
من يردّ الطفل إن ماتت يداه؟
من يعيد النور إن مات العطاء؟
غاب عطا،
وتجذّر بغيابه الانتماء،
للوطن،
لكوردستان الكرامة والأصالة


