في زمنٍ مثل زمننا، زمن المنصات الإعلامية المتنوعة، أصبح من الممكن أن تتجاور الخرافة والشعوذة مع العلم الدقيق، وكذا تجاور الخطاب المتطرف بآخر معتدل، ولم يعد غريباً أن تجد مادة فلسفية عميقة بجانب مادة سطحية رديئة. فعلى من نراهن في جودة التلقي، والأمر على هذا النحو؟
يبدو أن للتطرف والرداءة والسطحية جاذبية أقوى، خصوصًا إذا تم تعزيز ذلك من خلال النظم التربوية في مرحلة مبكرة من عمر الإنسان، لذلك فالرهان أولاً على التربية بالتأكيد. إلا أن التربية تتشارك فيها أطراف ومؤسسات متعددة، ولعلّ الأسرة تكون المؤسسة الأسبق زمنيًا والأكثر تأثيرًا. غير أن تأثير الأسرة، مهما بلغ، يبقى محكومًا بحدود بيئتها الضيقة، بينما يبقى الأثر الأوسع من نصيب المدرسة، بما تمثله من مؤسسة تربوية عمومية، وما تُختزل فيه من رؤية الدولة تجاه الإنسان والمعرفة.
وإذا علمنا أن جميع هذه الأطراف المؤثرة في التربية تنتظم وفق فكر المؤسسة التربوية، وأن الأسر بتعددها واختلاف ظروفها وخلفياتها الاجتماعية والثقافية لا يمكن الرهان عليها وحدها دون تدخل من جهة أعلى، فإن الرهان لن يكون إلا على المؤسسة العامة.
لكن هل تقوم هذه المؤسسة فعلًا بدورها في تنمية العقل النقدي، وتهذيب الذائقة، وتحفيز القدرة على التمييز بين العميق والسطحي؟ كثير من المؤشرات تُظهر عكس ذلك. فالنظام التربوي، في كثير من البلدان، لا يزال أسيرًا لآليات التلقين وتكريس السلطة المعرفية، ما يجعله مهيأً، من حيث لا يدري، لتعزيز جاذبية الرداءة، وتكريس الانقياد، بدلاً من مساءلته.
نرى هذا الانعكاس في الواقع الرقمي بوضوح. فحين يتجاور في نفس المنصة محتوى يروج لأفكار خرافية تتزيّا بثوب العلم، إلى جانب سلسلة معرفية رصينة تتطلب الانتباه والتركيز، فإن الغلبة، غالبًا، لا تكون للأجود، بل للأيسر استهلاكًا والأكثر إثارة. وحين يُقدَّم الخطاب المتطرف في قوالب ذكية، ومؤثرات بصرية لافتة، فإن الخطاب المعتدل العقلاني يبدو باهتًا في نظر المتلقي الذي لم يتلقّ من قبل أدوات الفرز والتقدير.
ومن هنا، يصبح الرهان الحقيقي على إصلاح المؤسسة التربوية، لا فقط في محتواها، بل في فلسفتها العميقة: ما الإنسان الذي نريده؟ وما المجتمع الذي نصبو إليه؟ إن تهيئة المتلقي لا تعني فقط تعليمه المهارات التقنية أو المعلومات العامة، بل تعني بالأساس تأهيل وجدانه وعقله لاستقبال الحياة بشيء من الانتباه والتمييز.
إن الرهان على المتلقي مرتبطٌ بتهيئته تهيئة مناسبة لهذه المهمة، وإن لم يتم هذا التأهيل بالشكل المطلوب؛ فإنه لا محالة سينجذب للرداءة والسطحية، أو للتطرف والانغلاق. وهكذا، لا يكون السؤال عن «من يقدّم المحتوى؟» هو الأهم، بل «من يستقبل؟ وبأي عقل؟ وبأي ذائقة؟».