مفتاح شعيب
لم تشهد القضية الفلسطينية، على مدى نحو ثمانية عقود، تعاطفاً دولياً بهذا الزخم والامتداد، كما لم تعرف إسرائيل عزلة بهذا الحجم والاتساع، وهي ظاهرة تأخذ في كل يوم منحنيات جديدة، بفعل ما يجري في قطاع غزة، من حرب إبادة وتجويع أثارت العالم كله، وطرحت عليه أسئلة لم تُطرح من قبل، بشأن مستقبل الصراع، ومشروع الاحتلال، وموقف المجتمع الدولي. صحيح أن إسرائيل، التي تمتلك قوة غاشمة، دمرت نحو 90 بالمئة من قطاع غزة، وقتلت وأصابت 10 بالمئة من سكانه، لكنها لم تستطع كسر إرادة الشعب الفلسطيني في القطاع المنكوب، وأرست بفعلها المتهور وتجاوزها لكل حدود القيم والأخلاق، معادلة جديدة، ونتائج سياسية لم تكن في الحسبان، عندما بدأت بالرد قبل 21 شهراً على هجوم السابع من أكتوبر 2023، فطوال هذه الفترة الطويلة، وهي تطارد ما سمّتها أهداف الحرب، المعلن منها والخفي، مثل استعادة الرهائن، وتهجير سكان غزة، ووأد حقوق الشعب الفلسطيني، بذرائع شتى. وبعدما فشلت كل الوسائل لإنجاز شيء عملي، لجأت إلى أقذر الأسلحة، بتجويع أكثر من مليوني إنسان، أغلبيتهم الساحقة لا علاقة لهم بالحرب، وإنما أبناء وطن متشبثون بأرضهم، ويفضلون الموت على التهجير، وأثبتوا جدارة منقطعة النظير في الثبات والصمود، وهي صورة مناقضة لسياسة إسرائيل التي لجأت إلى تهور لا نظير له، وإجرام لا يمكن تبريره، وقتل مجاني للأبرياء، وخصوصاً الأطفال منهم والنساء، ولم تسلم من هذا الأذى الأعيان المدنية، من مدارس ومستشفيات ومخيمات مؤقتة للنازحين، وهيئات أممية ودولية للإغاثة والدعم الإنساني. ما حدث ويحدث في غزة، لم يعد مجرد حرب عدوانية، بل أصبح قضية إنسانية وسياسية تأسر العالم، وتتصدر مواقف وتصريحات كل زعماء الدنيا، حتى ممن لا يكنون وداً للشعب الفلسطيني، ويقفون دائماً إلى جانب إسرائيل، ويدعمونها بكل شيء. وها هي دول الاتحاد الأوروبي تنقلب على تل أبيب، وتتبرأ علناً من انتهاكاتها الجسيمة، باعتبارها أفعالاً «يصعب الدفاع عنها». وبدأت أغلبية الدول تضع خططاً عملية لإنقاذ الشعب المحاصر والمجوع في غزة، وتتداعى للاعتراف بالدولة الفلسطينية وللدفاع عن مبادئ القانون الدولي، الذي يضمن لكل شعب حق تقرير مصيره. ومن الواضح أن الأسابيع والأشهر المقبلة ستشهد تطورات مفاجئة لصالح القضية الفلسطينية، ربما لم يكن مسموحاً التفكير فيها قبل بدء هذه الحرب المدمرة. ومن الواضح أيضاً أن المشهد معقد وسريع التقلب، وفيه قابلية لحدوث مفاجآت لم تكن تخطر على بال أحد قبل هذه الحرب المدمرة. كانت التضحيات الفلسطينية كبيرة، وخلال 662 يوماً من العدوان الإسرائيلي على غزة، فَقَدَ 60 ألفاً حياتهم، إضافة إلى آلاف المفقودين، ونحو 145 ألف مصاب. ولا شك أنها خسائر بشرية جسيمة وغير مسبوقة في التاريخ الفلسطيني، ولا يعتقد أحد أن هذا الشلال المتدفق من الدماء الطاهرة سيذهب هدراً، بل سيكون ثمناً باهظاً دفعه الفلسطينيون دفاعاً عن حقهم المشروع في العيش بكرامة وسلامة. والأرواح البريئة التي أُزهقت، هي التي تقود المعركة الآن، وتحرك العالم أجمع لإدانة إسرائيل، وللانتصار للشعب الفلسطيني ودولته المنشودة.