لم تعد الخلافات تُدار في غرف مغلقة، ولا على طاولات الحوار العتيقة، ولا حتى في ممرات العمل.
فاليوم، تُدار الخصومات على شاشةٍ مضيئة لا يتجاوز حجمها كفّ اليد، لكن أثرها يمتد كخطٍّ طويل يمزّق الوعي والذاكرة.
ففي العالم الرقمي يكفي أن تُخطئ في توقيت النشر، أو نبرة الجملة، أو تفسير المتلقي، لتجد نفسك في معركةٍ لم تختر الدخول فيها.
فهنا، الكلمة ليست حرفًا بل شرارة، والتعليق ليس رأيًا بل سهمًا يُطلق من خلف هويةٍ رمزية أو اسمٍ مستعار.
وكل شيء قابل للتضخيم، وكل شيء قابل لسوء الفهم، وكل شيء جاهز ليصبح خلافًا عامًا يُعاد تدويره أمام الجميع.
ففي هذا الفضاء لا تُقاس الخلافات بحجم الفكرة، بل بحجم التضخيم الذي يتكفّل به الجمهور.
فالاختلاف العابر قد يتحوّل إلى عاصفة بمجرد أن يقرأ أحدهم الجملة بالنبرة الخطأ.
والنوايا مهما كانت نقية يعاد تشكيلها وفق هوى الآخرين لا وفق حقيقتها.
ولا تصافحك الوجوه هنا، ولا تنقذك الملامح، ولا تمنحك المسافة فرصة لتلطيف ما انكسر من العبارة.
وبسبب ذلك يخرج أبسط خلاف من حدود الحوار إلى حدود الاتهام، ثم يتحوّل إلى أرشيفٍ لا يموت.
وأخطر ما في الخلافات الرقمية أنها تسبقك دائمًا بخطوة، وتردّ عنك قبل أن تكتمل الفكرة في رأسك.
والمتلقي لا يراك، لكنه يحاكمك كما لو أنه قرأ تاريخك كله من خلال جملة واحدة فقط.
وفي اللحظة التي تظن فيها أن الأمر انتهى، يعود الحوار مقتطعًا مبتور السياق تتداوله الصفحات بلا رحمة.
وللنجاة من هذا الزحام تمهّل قبل أن ترد، واقرأ قبل أن تفترض، وانسحب قبل أن تُستنزف، وتذكّر أن خلف كل حساب إنسانًا يتأذّى حتى لو بدا قويًا.
فالخلاف الرقمي ليس صراع عقول، بل صراع تأويلاتٍ متعجلة لا شاهد لها.
وفي النهاية… الشاشة ليست ساحة حرب، والنقطة لا الغضب هي التي تُنهي الجملة.

