لم تكن قراءتي لعدد من الدراسات المطوّلة التي نشرتها إحدى المدّعيات للنقد فعل فضول عابر، بل محاولة جادّة لفهم هذا الإصرار الغريب الذي يدفع بعض المتطفّلات على النقد إلى اقتحام ساحته وكأنّها ساحة مباحة للجميع. منذ الصفحات الأولى، كانت علامات الارتباك وأمارات الضعف تطفو بلا خجل: عثرات لغوية لا تُغتفر، أخطاء إملائية تتكاثر كالأشواك، وتراكيب متداعية تكشف خواءً معرفيًا لا يجديه أي تزيين. بدا النص متثاقلاً، مترنّحًا بين جمل بلا بنية واضحة، واستطرادات تتشعّب كأنها تهرب من مواجهة حقيقة العجز الذي تتخفّى خلفه.
وكلما تقدّمت في القراءة، ترسّخ في داخلي أن ما بين يدي ليس دراسة نقدية بقدر ما هو كومة منقولة من مصادر متفرّقة، جُمعت بعجلة، ولُصقت بإهمال فاضح. كانت المقاطع تتجاور كأنها ضيوف غرباء ضُغطوا في غرفة واحدة؛ لا علاقة بينهم إلا سوء التدبير. ومع قليل من التدقيق، بدا المشهد أكثر قسوة: نصوص مأخوذة بالحرف من دراسات منشورة، عبارات منتحلة بلا تغيير يُذكر، وأفكار مسلوبة تُقدَّم ببرود على أنها جهد نقدي. هنا لم يعد الشك احتمالاً، بل حقيقة ماثلة: نحن أمام سرقة أدبية كاملة الأركان.
ومن هنا، يفرض السؤال نفسه بحدّة لا تقبل التخفيف: ما قيمة هذه الأعمال التي تتكدّس في فضائنا الثقافي؟ وما معنى أن يتصدّر أحدهم المشهد بوصفه ناقدًا وهو لم يخطُ خطوة واحدة في طريق النقد الحقيقي؟ كيف يمكن لدارس أو قارئ جاد أن يثق بكلمة لا أصل لها، تُبنى على جهد مسروق وتُقدَّم بثقة لا يستحقها صاحبها؟
إن المشهد الثقافي العربي ليس في حاجة إلى مزيد من الضجيج، فهو مكتظ بما يكفي من التكرار والسطحية. لكن المأساة تتعمّق حين يُضاف إلى هذا الركام مَن يظن أن جمع النصوص ولصقها عمل نقدي، وأن تزيين السرقة ببعض المقدمات الرنانة يمكن أن يمرّ بلا مساءلة. فالسطو الفكري ليس هفوة، وليس اجتهادًا، بل خيانة حقيقية للثقافة، وطعنة في ظهر الإبداع، وإهانة للقارئ قبل أي أحد.
من المؤسف أن تنتشر في هذا الفضاء صور لكتّاب و"نقّاد" يقتاتون على جهد غيرهم، ثم يجدون من يصفّق لهم ويعلّق عليهم ألقابًا لا يستحقون عُشرها. هي ظاهرة ليست جديدة، لكنها اليوم أكثر وقاحة، إذ لم يعد الانتحال يستحي من أن يُكشف؛ بل بات أصحابه يتصرّفون كأن السرقة حق مشروع، وكأن الإبداع سلعة يمكن نسخها ولصقها بلا وازع أو رادع.
إن النقد الحقيقي لا يُقاس بعدد الصفحات ولا بكمية الاقتباسات، بل بقدرة الكاتب على رؤية النص من داخله، وعلى اكتشاف ما لا يراه الآخرون، وعلى بناء فكر متماسك لا يستند إلى عكازات الآخرين. أما أن يتحوّل الناقد إلى جامع نصوص، يجمع من هنا فقرة، ومن هناك سطرًا، ثم يربط بينها بخيط مهترئ من الكلام المكرور، فذلك ليس نقدًا، بل ادّعاء فجّ وسقوط لا صلاح له.
والأدهى من ذلك أن البعض ما زال يبرّر هذه الأفعال قائلاً: كل المعرفة اقتباس من معرفة أخرى. وهذا تبرير شديد الابتذال، لا يصمد أمام أبسط قواعد الأخلاق العلمية. نعم، المعرفة تراكم بشري، لكن السرقة ليست من هذا التراكم في شيء. الاقتباس مشروع حين يكون مشفوعًا بإحالة، ومحترمًا لحق أصحابه، ومندمجًا في رؤية الكاتب. أما الانتحال فهو نقيض المعرفة، ونقيض الأخلاق، ونقيض الوعي.
إن صمت الوسط الثقافي عن مثل هذه الممارسات لا يقل خطورة عن الممارسات نفسها. فالصمت ليس حيادًا، بل تواطؤ مستتر، وتسهيل لتمدد الرداءة. وحين تُمنح الألقاب لمن لا يستحقونها، تُهان الكلمة، ويُهان القارئ، ويُهان العمل الإبداعي بأسره. لا يمكن للمشهد الأدبي أن يتعافى وفيه من يستسهل نهب جهود الآخرين، ويضع اسمه فوق نصوص لم يكتبها، ثم يطالب بالاعتراف والتقدير.
لقد بات ضروريًا أن يُقال بوضوح: إن الكلمة المنسوخة ليست ملكًا لمن يسرقها، وإن الدراسات المبنية على الانتحال ليست سوى واجهات خاوية ستسقط عند أول ضوء للحقيقة. من يريد أن يكون ناقدًا، فليقرأ حتى تتعب عيناه، وليحلّل حتى ينهكه النص، وليجتهد حتى يخرج برؤية تخصّه، لا برؤية مسروقة من غيره. أما من يسرق النصوص ويؤلف بينها كما يؤلَّف بين قصاصات الصحف، فذلك لا يكتب تاريخًا لنفسه، بل يكتب إدانة دائمة.
والقارئ اليوم ـ مهما تعدّدت ثقافاته ـ لم يعد ساذجًا ليُخدع بسهولة. يكفي أن يبحث عن مقطع واحد من تلك النصوص المنسوبة ليدرك الكارثة. إنها كارثة أخلاقية قبل أن تكون كارثة نقدية. كارثة تقول إن البعض يريد مكانًا في الواجهة بأي ثمن، حتى لو كان الثمن مصادرة جهود الآخرين.
إن رفع الصوت هنا ليس هجومًا، بل دفاعًا مشروعًا عن نزاهة الكلمة. فالإبداع لا يُبنى بالسرقة، ولا ينمو بالكذب، ولا يزدهر على أنقاض الآخرين. وما لم نواجه هذه الظاهرة بصرامة، سنجد أنفسنا أمام مشهد يتصدّره الأدعياء، بينما يُهمَّش أصحاب الجهد الحقيقي.
فليكن الموقف واضحًا: الكلمة المسروقة لا تُعلي شأن قائلها؛ إنها تُعرّيه. والنص المنهوب لا يمنح مكانة؛ إنه يفضح هشاشة صاحبه. والنقد لا يُكتب بالنسخ، بل بالصدق.
ومن لا يملك جرأة الصدق، لا يحق له أن يقترب من عالم الكتابة.

