: آخر تحديث
إعادة رسم التوازنات وصعود اللاعبين الجدد

الشرق الأوسط ما بعد غزة

2
2
2

دخلت الحرب على غزة مرحلة حاسمة تغيّرت معها كثير من المعادلات السياسية والأمنية في الشرق الأوسط. المشهد اليوم لم يعد محصورًا في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي فقط، بل امتد ليشمل الحسابات الإقليمية والدولية كافة. من سقوط الصورة الأمنية التقليدية لإسرائيل إلى إعادة ترتيب النفوذ الأميركي، مرورًا بصعود اللاعبين الخليجيين كفاعلين مستقلين، يبدو أن المنطقة تستعد لدخول مرحلة ما بعد غزة، مرحلة تتطلب قراءة دقيقة للتوازنات الجديدة وفرص السلام أو الحرب المقبلة. السؤال المركزي اليوم: هل ستنجح القوى التقليدية في الحفاظ على قواعد اللعبة القديمة، أم أن الحرب الحالية فتحت الباب أمام خريطة جديدة بالكامل؟

إسرائيل، التي اعتادت على فرض معادلات الردع، تواجه اليوم أزمة داخلية عميقة. الحكومة بقيادة نتنياهو تعيش صراعات متواصلة مع المؤسسة العسكرية، التي وجدت نفسها غير قادرة على تحقيق أهدافها التقليدية في الحرب. فشل الخطط الأمنية التي كانت تُعتبر حاسمة منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر) كشف عن هشاشة في هيكل الدولة الأمني، وأضعف الصورة العامة لإسرائيل في نظر حلفائها الإقليميين والدوليين. أزمة الشرعية الداخلية هذه تعقّد قدرة الحكومة على اتخاذ قرارات استراتيجية مصيرية، سواء بالتصعيد أو بوقف إطلاق النار، ما يجعل المشهد الإسرائيلي أكثر هشاشة وتعقيدًا أمام الخيارات القادمة.

أما الولايات المتحدة، فهي تشهد تحولات واضحة في دورها الإقليمي. الضغط الأميركي على إسرائيل لوقف الحرب مؤقتًا، والخوف من انزلاق الصراع إلى مواجهة أوسع تشمل لبنان وسوريا، كشفا عن تراجع قدرة واشنطن على فرض إرادتها كما في العقود السابقة. التغيرات الداخلية في أميركا وانشغالها بمشكلات داخلية معقّدة جعلا من الصعب إعادة إنتاج ما كانت تعتبره سياسات ردع تقليدية في الشرق الأوسط. بالمقابل، صعود اللاعبين الإقليميين مثل السعودية والإمارات يعيد توزيع الأدوار، ويضع الولايات المتحدة أمام واقع جديد، حيث لم تعد القوة العسكرية وحدها كافية، بل أصبح التأثير السياسي والاقتصادي المتوازن عنصرًا حاسمًا في إدارة النزاعات.

في لبنان، يبدو أن الجبهة الجنوبية تقترب من لحظة القرار الحاسمة. الضغوط على المقاومة اللبنانية والتوترات المستمرة على الحدود الشمالية لغزة تجعل من لبنان ساحة اختبار للسياسات الإقليمية الجديدة. هذه المعادلة لا تقتصر على الجانب العسكري فقط، بل تشمل الاستقرار الداخلي للدولة اللبنانية نفسها، حيث تزداد الحاجة إلى توازنات دقيقة تمنع انزلاق البلاد إلى أزمة أوسع. لبنان اليوم يواجه امتحانًا صعبًا، بين حماية سيادته وتجنّب مواجهة شاملة قد تكون كلفتها باهظة على الصعيد الإنساني والسياسي.

في المقابل، برزت دول الخليج، وخاصة السعودية والإمارات، كلاعبين مركزيين لا يُستهان بهما، محولتَين ثقلهما الاقتصادي إلى نفوذ سياسي ودبلوماسي فعّال. التمويل والمبادرات الدبلوماسية التي قدّمتها هذه الدول أعادت صياغة أدوارها في المنطقة، وجعلت من حضورها عاملًا لا يمكن تجاهله في أي اتفاق إقليمي أو تسوية سياسية. قطر أيضًا أظهرت نشاطًا واضحًا في الوساطة، سواء في غزة أو بين الأطراف الإقليمية المختلفة، ما يعكس تعدد اللاعبين وقدرتهم على التأثير المباشر في سير الأحداث.

مع كل هذه التحولات، يبدو أن الشرق الأوسط يواجه خريطة جديدة من التوازنات. تركيا وإيران وإسرائيل، كل منها يسعى لتعزيز موقعه، لكن ما يجمعهم اليوم هو إدراكهم أن قواعد اللعبة القديمة قد لا تعود قابلة للتطبيق. إيران، على سبيل المثال، استفادت من الحرب لتعزيز "محور المقاومة" ولتصدير أزمتها الداخلية، مع إدراك أن الانزلاق نحو صراع واسع ليس بالضرورة في مصلحتها المباشرة الآن. سيناريوهات المستقبل تشمل استمرار الحرب في غزة لفترة أطول، أو هدنة هشّة تعتمد على وساطات إقليمية ودولية، أو حتى تسوية شاملة قد تشمل إعادة ترتيب سياسي في الضفة الغربية وقطاع غزة. هذه الاحتمالات تفرض على صانعي القرار دراسة دقيقة لكل خطوة، بما في ذلك تأثيرها على الداخل الوطني والإقليمي.

الشرق الأوسط بعد غزة ليس كما قبله. صعود اللاعبين الجدد، تحولات النفوذ التقليدي، وضغط الواقع العسكري والسياسي، كل هذه العوامل تجعل المنطقة على مفترق طرق. قراءة دقيقة للمستقبل تتطلب إدراك أن القوة العسكرية وحدها لم تعد كافية، وأن التحالفات الجديدة والوساطات الإقليمية والدبلوماسية الاقتصادية أصبحت مفتاحًا لتثبيت أي تسوية أو إدارة صراع. المنطقة اليوم بحاجة إلى حلول مبتكرة ومستدامة، توازن بين الأمن والسياسة والاقتصاد، بعيدًا من الحسابات القديمة التي لم تعد صالحة في عالم متغير بسرعة. الخيارات التي تُتخذ اليوم ستكتب تاريخ الغد، وستحدد شكل التوازنات الإقليمية لعقد كامل على الأقل.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.