: آخر تحديث

امرأة تنام على جناح طائرة

6
6
5

منيرة أحمد الغامدي

لم تكن تسافر لتصل بل كانت تسافر لتبقى. امرأة خُلقت بداخلها رغبة دائمة في العبور وكأنها منذ البدايات الأولى أدركت أن الأرض على اتساعها لا تمنح دائمًا اتساع القلب. لم تسكن مدينة فكلما حاولت أن تضع لها عنوانًا يمرّ في داخلها صوت يشبه نداء الطائرة «المغادرة بعد لحظات» فتعيد ترتيب حقيبتها وتغلق على ما تبقّى من شعور وتمضي لا هربًا بل توقًا إلى فضاءٍ لا يضيق.

تعرفت على المطارات أكثر مما تعرفت على الجدران، وإن كتبت فهي تكتب من نوافذ الطائرات و تكتب للغيم وتبعث بحروفها للريح. ما بين صالة انتظار وأخرى صارت الأيام تتشكل مثل فسيفساء لا تشبه الرتابة. كانت تجلس قرب النافذة دائمًا وتسند رأسها إلى الزجاج وتتأمل المدن من الأعلى وكأنها مدن تشبه الحكايات القصيرة إذ تلمع قليلًا ثم تختفي.

لم تكن تبحث عن مكان بل عن إحساس أن تكون على ارتفاع لا يلامسه الثقل حيث لا أحد يسألها من أنتِ؟ ولا أين كنتِ؟ حتى حين تسألها المضيفة «هل تودين شيئًا؟» تبتسم وتجيب «فقط نافذة مفتوحة على السماء.»

لم يكن نومها على جناح الطائرة مجرد استراحة بل كان طريقًا لليقظة من كل ما يُقيد، فهي تعرف أن بعض الأرواح لا يناسبها السير في الطرق المرسومة بل خُلقت لتتبع خطّ طيرانها الخاص ولو بدا غريبًا في عيون الآخرين. وسألتها امرأة ذات مساء في صالة مغادرة «ألا ترغبين بالاستقرار؟» فأجابت بهدوء «أحيانًا الاستقرار يكون في التقبّل بمعنى أن تقبلي بأنك لا تشبهين البقاء.»

ثم قامت وجمعت أوراقها وسارت نحو البوابة دون أن تلتفت. هي لا تحمل خريطة ولا تتبع بوصلة الآخرين فهي فقط تعرف أن وجهتها ليست نقطة نهاية بل كل لحظة عبور. في سجل المسافرين هي مجرد رقم وفي ذاكرة موظف الجوازات مجرد عابرة لكن في ذاكرة الغيم هي امرأة تنام على الجناح وتستيقظ في داخلها مدن لا يعرفها أحد.

ربما لم تكن تبحث عن وطن يُشبهها بل كانت و بكل بساطة تسافر كي لا تصبح مثل ما لا تُحب، فكانت تعبر لا لأن الطريق هو الغاية بل لأن التوقف كان يشبه التنازل عن جزء من الروح، وفي عالمٍ يُقاس بالثبات اختارت أن تكون احتمالًا طائرًا لا تعريفًا جامدًا.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد